|
إن إشارات القرآن إلى أن الإنسان مستخلف في الأرض ومستعمر فيها، متكررة وحتى يمكننا
أن نتوصل إلى حقيقة تلك الإشارات وما تتضمنه من قيم حكمية وشرعية، فلا بد
من مناقشة قضية الاستخلاف والاستعمار من ثلاث جهات أصلية، وهي: الأولى:
تحديد المستخلف عنه، والثانية: تحديد مفهوم الاستخلاف والاستعمار في الأرض،
والثالثة: تحديد منزلة الاستخلاف في الشريعة الإسلامية .
***أما الجهة الأولى:
************
فإنه
لا يكاد يتردد أحد من المسلمين في أن جنس الإنسان مستخلف عن غيره في هذه
الأرض؛ لأن ذلك هو صريح قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] .
وإنما
وقع الخلاف في تحديد المستخلف عنه، فمن العلماء من ذهب إلى أن المستخلف
عنه هو الله سبحانه وتعالى، ولهذا أجازوا أن يقال: إن الإنسان خليفة الله
في الأرض .
واستندوا
في تأييد قولهم على أدلة متعددة، ومنها: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}
[البقرة:30]، على أساس أن الإنسان خليفة عن الله، ولكن سياق الآية وتركيب
ألفاظها لا يساعد في الدلالة على هذا المفهم كما سيأتي .
ومما استندوا إليه قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله ممكن لكم في الأرض ومستخلفكم فيها".
ومما استندوا إليه: قول علي رضي الله عنه حين قال في حديث الكميل عن العلماء: "أولئك خلفاء الله في أرضه".
ومن
العلماء من ذهب إلى أن المستخلف عنه مخلوق آخر إما الجن أو غيرهم،
واستندوا إلى عدة معطيات، ومنها: قول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا
مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:30],
فهذا التعجب منهم يدخل على أنه كان في الأرض مخلوق سابق على آدم أفسد في
الأرض وسفك الدماء، ولكن يضعف هذا الاستدلال ما جاء عن عدد من الصحابة من
أن الله تعالى أخبر الملائكة بما يحصل من هذا المخلوق الجديد .
ومما
استندوا إليه أيضا: المعنى اللغوي للفظة الخليفة، قالوا: الخليفة في اللغة
إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره، والله تعالى شاهد دائما لا يغيب، فلا يصح
بالتالي أن يكون الإنسان خليفة عن الله، واختار بعض أصحاب هذا القول المنع
من قولهم: الإنسان خليفة الله في الأرض .
واعتمدوا أيضا على قول أبي بكر حين قيل له: يا خليفة الله، فقال: لست خليفة الله ولكن خليفة رسول الله .
والأمر
في هذه القضية هين؛ لأن البحث فيها لغوي محض، راجع إلى حقيقة معنى الخلافة
في اللغة، فإذا كانت مطلق النيابة عن الغير، سواء كان ذلك الغير شاهدا أو
غائبا، فإنه يصح القول بأن الإنسان خليفة الله في الأرض، وإن كانت تقتضي
غيبة المستخلف وعدم وجوده، فإنه لا يصح أن يقال الإنسان خليفة الله .
*****وأما الجهة الثانية، وهي: حقيقة الخلافة في الأرض:
***********************************
إذا
كانت النصوص الشرعية هي المرجع في إقامة خلافة الإنسان في الأرض وعمارته
لها، فهي المرجع أيضا في تحديد حقيقتها وماهيتها، ونحن إذا رجعنا إلى
النصوص نجد أنها أشارت إشارات عديدة إلى معنى العمارة في المفهوم الإسلامي،
وبينت بأنها ليست مقتصرة على العمارة الحسية فقط، وإنما تدخل فيها العمارة
المعنوية بشكل ظاهر، ومن تلك الإشارات قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ
الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى
أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين} [التوبة:18]، وجعلت المنع من
عبادة الله في المساجد سعيا في خرابها، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي
خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ
خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيم} [البقرة:114]، وكما قال تعالى: {وَالطُّور * وَكِتَابٍ مَّسْطُور *
فِي رَقٍّ مَّنشُور * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُور} [الطور:4] يعني بكثرة
العبادة من الملائكة .
ومما
يؤكد أن العمارة في المفهوم الإسلامي تشمل العمارة المعنوية بشكل قطعي:
تفسير الإسلام للفساد في الأرض، فهو في الإسلام ليس مقتصرا على الفساد
الحسي فقط، وإنما يشمل الفساد المعنوي أيضا، وكثيرا ما يطلق في القرآن
ويراد به ذلك، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ
مِّنَ الْمُحْسِنِين} [الأعراف:56]، قال بعض المفسرين من السلف: أي لا
تعصوا الله في الأرض فيمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم، وكثيرا ما يصف
القرآن أفعال الكافرين والمنافقين بالفساد وأنها سبب الهلاك وخراب الأرض
كما قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي
الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُون} [البقرة:12]، وكما قال تعالى:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار}
[ص:28].
وإذا
رجعنا إلى آية الخلافة نفسها وأعدنا النظر والتأمل في تركيب ألفاظها فإنها
تعطي لنا دلالة على أن المراد بالخلافة التي أرادها الله للإنسان يرجع إلى
العبودية له والخضوع والذل لجلاله وكماله؛ وذلك أن الله حين أخبر الملائكة
بأنه سيجعل في الأرض خليفة قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:30],
فهذا القول من الملائكة يدل على أنهم فهموا أن الغرض من الخلافة هو إعمار
الأرض بالعبادة لله تعالى والتقرب له؛ ولهذا سألوا تعجبا عن موجب ذلك وهم
يقومون بهذه المهمة العظيمة، فأخبرهم الله بأنه يعلم من حال ذلك المخلوق ما
لا يعلمونه، وأنه مهيأ للقيام بتلك المهمة، ولهذا علمه الأسماء كلها ثم
أمره بأن يعرضها على الملائكة ليدركوا حقيقة ما علمه الله سبحانه وتعالى .
وهذا
ما توارد عليه كبار المفسرين من الصحابة كابن مسعود وغيره, فإنه الخلافة
عندهم شاملة للقيام بعبادة الله، يقول ابن جرير شارحا تفسير ابن مسعود:
"فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس:
إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو
آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه" (1/451).
ولما
ذكر الله لداود أنه جعله خليفة في الأرض بين مقتضي تلك الخلافة فقال: {يَا
دَاوُدُ إنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فاحْكُم بَيْنَ النّاسِ
بِالحَقِّ ولاَ تَتَّبِعِ الهَوَى}, الآية: [26], فالقيام بالحق وبتنفيذ
أوامر الله وحكمه مرتكز أساسي في معنى الخلافة.
وقد
توصل بعض المفكرين الإسلاميين إلى تعريف جامع للخلافة التي أرادها لله
للإنسان في الأرض فقال: الخلافة هي "عبادة طوعية لله تعالى بالتزام هديه
وشرائعه ينشأ عنها ضبط للسلوك الإنساني في علاقته مع الله وعلاقته بالكون
والمخلوقات، بحيث تسير الحياة الإنسانية ضمن إطار الصلاح" (الخلافة في
الأرض، أحمد فرحات 21)، فهذا التصوير للخلافة يجمع لك جميع المعاني الداخلة
في ما أراده الله تعالى من الإنسان في الكون، ويحقق لك التوازن بين المهمة
الأولى والرئيسة للإنسان في الكون التي هي العبودية وبين معنى الخلافة
التي أردها الله للإنسان .
ويقول
د/ عبدالمجيد النجار في تعريف مفهوم الخلافة: "إن الخلافة – المهمة
الوجودية للإنسان - تعني الخلافة عن الله تعالى لتنفيذ مراده في الأرض
وإجراء أحكامه فيها " ( خلافة الإنسان 47).
والذي
يستوجبه التعامل الصحيح مع النصوص الشرعية ويستوجبه الانسجام مع الأصول
الكلية للشريعة ومقتضيات الدلالة اللغوية والسياقية للنصوص أن نراعي في
تفسيرنا للخلافة والعمارة للأرض المعنى الواسع الذي يشمل معنى العبودية لله
تعالى، حتى لا نقع في الاختزال المنافي لحقيقة ما دلت عليه النصوص، فإذا
غلبنا جانب الخلافة المادي وجعلناه المعنى البارز لها فإنا نكون بذلك غير
منسجمين مع سياق النصوص ولا مع تركيب ألفاظها كما سيأتي الكشف عنه .
*****وأما الجهة الثالثة، وهي: منزلة الخلافة في الشريعة الإسلامية:
*******************************************
فالمتأمل
في النصوص الشرعية يقف فيها على اهتمام كبير بعمارة الأرض والارتقاء بها،
ويجد فيها إبرازا مكثفا لها، فالنصوص تارة تشير إلى قضية خلافة الإنسان في
الأرض وتارة تشرح حقيقتها ومتطلباتها، وتارة تستحث الهمم على امتثالها
والمبادرة إليها، وتارة تشير إلى الأعمال المنافية للاستخلاف وعمارة الأرض
وتارة تذكر ذلك في سياق الامتنان والنعم، فهذه الحفاوة والاهتمام المتتالي
يدل على أهمية هذه القضية في الشريعة الإسلامية وأنها ليست أمرا ثانويا
فيها؛ إذ إنها لا تبرز قضية بذلك الشكل إلا إذا كان عالية الشأن كبيرة
المقدار .
وإذا
رجعنا إلى آية الاستخلاف نفسها، فإننا سنجد فيها دلالة عالية الجودة على
أهمية الخلافة وعلو قدرها، فسواء قلنا إن الإنسان خليفة عن الله تعالى أو
عن مخلوق آخر، فنفس الإعلان الإلهي عن هذه القضية وعن الكائن الإنساني الذي
سيقوم بها دليل ظاهر على خطورة قضية الخلافة وعلو قدرها في الإسلام، فقد
بلغت من العلو إلى درجة أن الله يعلن للملائكة أنه سينشئ مخلوقا يقوم بمهمة
الخلافة في الأرض
ومما
يدل على أهمية عمارة الأرض: أن الشريعة رتبت على إعمارها الأجر وجعلته
سببا للثواب، وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يغرس غرساً أو
يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقةٌ" (
البخاري ومسلم)، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق له منه صدقة وما
أكل السبع منه فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا
كان له صدقة " (مسلم) .
وذكر الغرس والزرع هنا ليس على جهة التخصيص وإنما على جهة التمثيل فقط، فيدخل في الحديث كل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم .
ومما
يدل على ذلك أيضا: أن الله في سياق الأدلة على استحقاقه للعبودية يكرر
الامتنان على عباده بأن جعل لهم الأرض مهدا وسلك لهم فيها السبل وجعلها
مسخرة ومذللة لهم، وهذا التأكيد والتكرار من الله تعالى دليل على عظمة
عمارة الأرض وعلو منزلتها؛ إذ لو لم تكن عظيمة لما حظيت بذلك الذكر المتكرر .
ومما
يدل على علو شأن الاستخلاف في الأرض وارتفاع منزلته: أن الله جعله جزاء
لعباده المؤمنين على تمسكهم بدينهم ووعدهم بأن يحققه لهم، كما قال تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُون} [النور:55]، وجعل جزاء الإيمان والعمل الصالح التوسعة في
الرزق في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ
وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون} [الأعراف:96] .
ولو
كانت عمارة الأرض شيئا محتقرا في ذاته أو قليل القدر في الدين لما جعله
الله جزاءً لعباده المؤمنين الذي صدقوا في دينهم والتزموا به .
ومما
يدل على أهمية قضية الاستخلاف وعمارة الأرض: تأكيد النصوص المتكرر على
ضرورة مراعاة السنن الكونية التي جعلها الله في الكون، وحتمية الالتزام بها
ومراعاتها، فقد اهتم القرآن ببيان القوانين والسنن التي يسير عليها الكون،
وكشف عن قدر كبير منها، كسنة السببية وسنة التغيير وسنة هلاك الأمم وسنة
القوة، وغيرها، وهذه الإشارات المتتالية تؤكد على علو قدر عمارة الأرض؛ إذ
لو لم تكن عالية القدر لما حصل كل هذا الاهتمام بالسنن التي تضبطها وتقّيم
مسيرتها .
ومع
كل تلك الدلالات إلا أن الشريعة في الوقت ذاته قدمت تحذيرات عديدة من
الانغماس في عمارة الأرض والاستغراق فيها بحيث ينشغل الإنسان عن الحياة
الأخرى، التي هي الحياة الباقية والتي تتحقق فيها السعادة الأبدية، وهذه
التحذيرات تحدث في العقلية المسلمة توازنا في التعامل مع عمارة الأرض بحيث
إنه يهتم بها وبما يحقق العدالة والكرامة الإنسانية ويرتقي بحياة الإنسان،
ولكنه في نفس الوقت لا يغفل عن علاقته بربه وعن حياته الأخرى التي سينتقل
إليها ويعيش فيها مدة لا تنقض .
ولا
بد من التأكيد على أن تلك الدلالات التي كشفت عن منزلة قضية الخلافة
والاستعمار في الإسلام لا تساوي ولا تقارب في القوة والوضوح والكثرة
الدلالات التي تبين منزلة العبودية لله تعالى .
ولو
قمنا بمقارنة بين دلالات النصوص على أهمية معنى الخلافة وبين الدلالات
التي تكشف عن أهمية معنى العبودية فإنا سنجد أن دلالاتها على معنى العبودية
أكثر وأقوى وأعلى وأظهر، مما يؤكد على أن معنى العبودية يمثل المحور
الحقيقي للإسلام والهدف الرئيس لوجود الإنسان في الأرض والمرتكز الصلب الذي
ترجع إليه كل حركاته وتصرفاته فيها .
فالشريعة كررت الأمر بالعبودية لله تعالى وتنوعت في استعمال الأساليب الدالة على ذلك، بينما لا نجد ذلك في معنى الخلافة والاستعمار .
وحين
بينت الشريعة الغاية من وجود الإنسان استعملت أقوى أسلوب في الحصر، وهو
النفي والاستثناء، بينما لم تستعمل هذا الأسلوب في معنى الخلافة، بل لم
تستعمل أسلوب الحصر أصلا .
وحين
بينت النصوص أهداف دعوة الرسل والمعنى الكلي الجامع بينها أرجعت ذلك إلى
معنى العبودية والخضوع لله تعالى، بينما لم تستعمل هذا الأسلوب في معنى
الخلافة .
وحين
بينت النصوص الأسباب الموجبة لهلاك الأمم ونزول العذاب بها في الدنيا
والآخرة أرجعت ذلك إلى كفرهم بالهل تعالى وعدم إيمانهم به، بينما لم تفعل
ذلك في قضية الخلافة .
فهذه الدلالات الشرعية تكشف لنا مقدار التفاوت الكبير والتباعد الشاسع بين هدف العبودية في الشريعة الإسلامية وبين هدف الخلافة فيها .
ولا
بد من التأكيد على أنا حين نقارن بين هذه المعنيين – العبودية والخلافة –
لا نريد أن نفصل بينهما ولا نقصد إلى التقليل من شأن الخلافة، وإنما
المقصود وضع كل قضية في موضعها من خارطة الإسلام، والتأكيد على منزلتها
التي دلت عليها الشريعة من غير زيادة ولا نقصان، فكما أن التقليل من شأن
الخلافة في الأرض خطأ مخالف للنصوص الشرعية، فكذلك الإعلاء من شأنها
ومزاحمة مفهوم العبودية بها خطأ مخالف للنصوص الشرعية .
ويجب
ألا يبقى التأكيد على أهمية الخلافة وعمارة الأرض على المستوى النظري فقط،
بل يجب أن يتحول إلى برامج علمية تقوم الأمة فيها بتحقيق الواجب الكفائي
عليها .
فالأمة
الإسلامية كلها مطالبة بأن تقيم الحضارة التي تضمن لها الحفاظ على دينها
وتضمن لها مراغمة العدو ومقارعته وإرهابه، وتضمن لها أيضا تحقيق كرامة
الإنسان والحفاظ على حقوقه وإزالة الظلم المالي والجسدي عنه، وتضمن لها
الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عن العدو، فإذا كان الإسلام يعلو
ولا يعلى عليه، فكذلك يجب أن تكون الأمة الإسلامية تعلو ولا يعلى عليها .
وعلى
مقتضى الأصول الفقهية فإنه يجب أن تنتدب طائفة من الأمة للقيام بالواجب
الكفائي في هذه القضية، وتجعل ذلك من أولوياتها الفكرية والسلوكية؛ حتى
تحقق للأمة ما تحتاجه وتحقق لها استقلالها، ولا يحق لأحد أن ينكر على من
جعل من أولوياته القيام بواجب الخلافة وعمارة الأرض؛ لأنه بفعله يقوم بعمل
كبير، يسقط به الإثم عن عموم الأمة، ولا ينكر عليه إلا إذا أخطأ، ويكون
الإنكار متوجها إلى خطئه لا إلى أصل عمله ومشروعه .
مناقشة استدلالية
*******
ومع
ظهور الدلالات الشرعية التي تكشف عن موقع فكرة الخلافة والحضارة في خارطة
الإسلام وتحدد منزلتها فيها بشكل جلي، إلا أن هناك خطابات غدت تبرز في
الساحة الفكرية، نتيجة لضغط حالة التخلف الدنيوي الذي يعيشه العالم
الإسلامي وحالة التقدم الهائل الذي يعيشه العالم الغربي .. نتيجة لذلك أخذت
تلك الخطابات تجعل الدعوة إلى عمارة الأرض وإقامة الحضارة أولوية في
مشروعها الإصلاحي –وهذا القدر لا ضير فيه– ولكنها لم تكتف بذلك فأخذت تصدر
أحكاما وتعبر بألفاظ توحي بأن فكرة الخلافة في الأرض تمثل هدفا أولويا في
الإسلام لوجود الإنسان، وتمثل مركزية أساسية للدين، ويقول ذلك الخطاب: إن
مهمة الرسل الأولى هي الدعوة إلى إعمار الأرض والحث على الارتقاء بها،
فالمقصد الرئيس من الأديان ومن الإسلام بخصوصه هو الاستخلاف في الأرض،
بمعنى أن يكون الإنسان خليفة ومشاركة في إعمار الأرض والارتقاء بها .
واستندت هذه الأطروحة إلى أنواع من الأدلة الشرعية، أبرزها ثلاثة نصوص، وهي:
النص
الأول: آية الخلافة، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
ووجه
الاستشهاد بها: هو أن الله تعالى جعل المهمة الأولى في هذه الحياة الخلافة
عنه في الأرض، وهذا الاستدلال مبني على أن الإنسان خليفة عن الله تعالى،
وعلى أن المراد بالخلافة إصلاح الأرض والارتقاء بها .
ونحن إذا رجعنا إلى الآية الكريمة لنتحقق من دلالتها على أولوية الخلافة لا نجدها تدل على ذلك؛ لأمرين:
الأمر
الأول: أن سياق الآية يدل على أن الغرض الأصلي منها ليس هو الإخبار عن
خلافة الإنسان في الأرض، وإنما هو تذكير الإنسان بنعمة من نعم الله عليه
ليعبده ويخلص التوحيد له .
وهذه الطريقة متكررة في القرآن، فإنه كثيرا ما يذّكر الإنسان بنعم الله عليه حتى يلزمه بعبادته والإيمان به .
فلو
رجعنا إلى سياق الآية نجد أنه جاء فيه التذكير أولا بنعمة الإحياء
والإيجاد من العدم، ثم التذكير ثانيا بنعمة تسخير ما في الأرض للإنسان، ثم
جاء التذكير ثالثا بنعمة الخلافة في الأرض .
وقد نبه على هذا الترتيب بين النعم الثلاث عدد من كبار المفسرين، كالرازي والألوسي والطاهر ابن عاشور .
وبناء
عليه فالفكرة المحورية لآية الخلافة هي الاستدلال على استحقاق الله
للعبودية وليس إثبات خلافة الإنسان في الأرض؛ فالخلافة جاءت فيها بالتبعية
لا بالقصد الأولي.
وغاية
ما يدل عليه هذا النوع من النصوص هو أهمية قضية الخلافة –وهو أمر متفق
عليه– ولكنها لا تدل على أولويتها ومركزيتها في الشريعة من بين الأهداف
الأخرى .
الأمر
الثاني: أن غاية ما تدل عليه الآية هو الإخبار عن إرادة الله تعالى لأن
يكون الإنسان خليفة في الأرض، ولم تشتمل على أمر بذلك ولا على ترتيب ثوابه
ولا غيره، وأسلوب الإخبار بحد ذاته لا يدل على الأولوية والمركزية؛ لأن
الله تعالى أخبرنا عن أشياء كثيرة يريد وقوعها، ولم يقل أحد إن تلك الأمور
تمثل هدفا أولويا للإنسان أو غاية مركزية في الدين، وإنما غاية ما تدل عليه
تحقق الأهمية، وهو ليس محل خلاف .
النص
الثاني: آية الاستخلاف، وهي قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ
صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب}
[هود:61].
ووجه
الاستشهاد بها: أن صالحا ابتدئ دعوته لقومه بأن الله أمرهم بعمارة الأرض
وامتن عليهم بذلك، والابتداء بالأمر والامتنان يدل على أولوية العمارة،
وكونها هدفا رئيسا للإنسان في الأرض .
وقبل
أن نقوم بعملية الفحص المنهجي لهذا الاستدلال لا بد من التنبيه على أن بعض
العلماء السابقين استدل بهذه الآية على وجوب إعمار الأرض، ومن أولئك:
الكيا الهراس، حيث يقول - تعليقا على قول صالح عليه السلام -: "يدل على
وجوب عمارة الأرض، فإن الاستعمار طلب لعمارة الأرض، والطلب المطلق من الله
للوجوب" (أحكام القرآن 3/226).
ولكن إذا رجعنا إلى الآية لنتحقق من دلالتها على أولوية العمارة أو وجوبها نجدها لا تدل على شيء من ذلك، وذلك لأمور:
الأمر
الأول: أن سياق الآية جاء في الاستدلال على وجوب إفراد الله تعالى
بالعبادة وبيان استحقاقه لها، ولم يكن في الأمر بعمارة الأرض، فصالح عليه
السلام كان في مقام المناظرة لقومه ليثبت لهم شناعة كفرهم بربهم، فأراد أن
يلزمهم الحجة فاستدل عليهم بنعمة الخلق ونعمة تسخير الأرض لهم، فذِكْرُ
العمارة جاء على جهة الامتنان لا على جهة الطلب والأمر .
وهذا
ما فهمه وأكده جمهور المفسرين، فإنهم تواردوا على جعل قول صالح من باب
التذكير بالنعم لا من باب الأمر بعمارة الأرض، وحملوا السين والتاء فيها
على المبالغة لا على الطلب، كقولهم استفحل الأمر، وفي بيان هذا المعنى يقول
الطاهر عاشور: "استعمركم" من الإعمار، أي: جعلكم عمارا بها، فالسين والتاء
للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق "(التحرير والتنوير 6/108).
وبناء
عليه فغاية ما تدل عليه الآية هو أهمية عمارة الأرض وعلو قدرها، ولكنها لا
تدل على أنها هدف رئيس للإسلام ولا على أنها أولوية له .
الأمر
الثاني: أن المستقرئ لتفسير الصحابة والتابعين للاستعمار الوارد في هذه
الآية يجد أنهم اختلفوا في تحديد المراد منه على أقوال عديدة، منهم من قال:
الإعمار بمعنى إعطاء العمر وإطالته في الدنيا، ومنهم من قال: هو من قولهم
أعمركم فيها أي جعل الأرض سكنا لكم، ومنهم من قال: هو أمر بعمارة الأرض،
وكل هؤلاء معتمد على قرائن ظنية ولم يجعل ما ذهب إليه قطعي .
وهذا
يدل على أن تحديد المراد من الاستعمار من الآية مبني على الظن والاحتمال،
فهل يقبل في الأصول المنهجية الصحيحة أن يعتمد على الدلالة الاحتمالية في
تحديد الهدف الأولي للدين وفي الكشف عن الغاية التي تمثل المركزية فيه .
إن
القضايا الأساسية في الشريعة والأهداف الكبرى فيها لا يصح أن يعتمد فيها
على الدلالات الاحتمالية؛ لأن مقامها أعلى، وتتطلب قدرا من القوة والظهور
واليقينية، وهذا غير متوفر في دلالة هذه الآية، فلا يصح الاعتماد عليها .
الأمر
الثالث: أنه على فرض أنها دالة على طلب العمارة، وعلى أولويتها أيضا، فهل
من المنهجية الصحيحة أن نقدم هذه الدلالة المحتملة على الدلالات القطعية
التي دلت على أولوية العبودية في الإسلام وعلى مركزيتها في حياة الإنسان،
إنا لو فعلنا ذلك سنقع في التنكر للمنهجية العملية الصحيحة وسنفتح الباب
للاستدلالات المتلاعبة التي لا تعتمد على منهج، وينغلق الباب أمامنا للرد
على المتلاعبين .
النص الثالث: حديث الفسيلة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" ( البزار: 7408).
ووجه
الاستشهاد به: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عند قيام الساعة
وانتهاء الدنيا بغرس الشجر، ولم يأمر بالسجود مثلا أو بالصلاة مما يدل على
أولوية الإعمار على غيره في الإسلام .
وإذا
رجعنا للحديث نفسه لنتحقق من صحة الاستدلال به على أولوية الإعمار نجده لا
يدل على شيء من ذلك لا في لفظه ولا في سياقه؛ فالحديث جاء في سياق آخر
الزمان، وفي سياق لحظة يشعر فيها المسلم بفتور الهمة عن العمل؛ فحتى لا يقع
المسلم في هذه السلبية جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر على سبيل
المبالغة في الحث على العمل وعدم اليأس من النتيجة .
فكأنك
النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يقل أحدكم لمن أغرس هذه الشجرة ومن
يستفيد منها، بل عليه أن يبادر حتى ولو شعر بأن الدنيا زائلة، وفي تأكيد
هذا المعنى يقول الأستاذ محمد قطب: "والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع
لحظة بسبب اليأس من النتيجة فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع
الحياة الدنيا كلها . . حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل، وعن التطلع إلى
المستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها" (قبسات من الرسول: 20).
فالحديث
إذن جاء في سياق استنهاض الهمة والدعوة إلى عدم اليأس، ولم يكن في سياق
الدعوة إلى إعمار الأرض أو الأمر بها وجعلها هدفا أولويا في الدين، فغاية
ما يدل عليه الحديث هو الدعوة إلى غرس الأشجار والاهتمام ببقاء الحياة
عامرة في الأرض، ولا يدل على أن ذلك يمثل أولوية مقدمة على غيرها .
ويشرح
المناوي دلالة الحديث فيقول:" الحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار
وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم
عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به، فاغرس لمن يجئ بعدك لينتفع، وإن
لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من
الدنيا" (فيض القدير 3/40)، وهذا كله تأكيد على أنه جاء في سياق الحث على
العمل والتحذير من اليأس .
وفي
ختام البحث في منزلة الخلافة وعمارة الأرض في الإسلام وبيان حقيقتها لا بد
من التأكيد مرة أخرى على أن الهدف من هذا البحث ليس التقليل من شأن
الخلافة ولا الدعوة إلى إبعادها عن الأنظار، وإنما القصد تحقيق منزلتها من
خارطة الإسلام بالوضع الذي تحدده نصوص الشريعة نفسها .
ومحل
الإنكار على بعض الأطروحات ليس هو الاهتمام بشأن الحضارة والإنسان ولا في
جعل ذلك أولوية لها, وليس الإنكار أيضا متوجه إلى تكثيف الدعوة إلى معالجة
التخلف الذي يعيشه المسلمون في دنياهم ولا إلى كثرة ذكره أو ترديده ولا إلى
المكاثرة في الدعوة إليه .. كل هذه الأمور ليست محلا للإنكار، بل هي محل
للترحيب والتشجيع والمساندة، ولا يصح في الشرع توجيه الإنكار إليها أبدا .
وإنما
الإنكار يتوجه إلى تقفز تلك الخطابات فتجعل أولوية مشروعها هي أولوية
الإسلام نفسه، وتصور للمتلقين على أن الخلافة تمثل أولوية في الإسلام وهدفا
رئيسا فيه مقدما على غيره من الأصول الكبرى، وتزاحم بذلك الهدف الرئيس
للدين، فهذا القفز يمثل مخالفة ظاهرة لدلالات شرعية قطعية .
إن
الإحساس بأهمية الفكرة وضخامة الانحراف فيها لا يبرر لنا في محاولة
إصلاحها أن نرفعها فوق المنزلة التي لها في الشريعة، ولا يبرر لنا أن نغير
مكانها من خارطة الإسلام، فلو افترضنا أن زمنا من الأزمان شاع فيه الزنى،
فأرادت طائفة إصلاح هذا الخلل وجعلت ذلك من أولوياتها .. فلها الحق أن تجعل
ذلك هدفا أولويا لها، بل قد يجب عليها ذلك، ولكن لا يحق لها أن تصور
للمتلقين بأن الهدف الرئيس لدعوة الرسول هي محاربة الزنى وأن الله تعالى
إنما أرسل الرسل لتحقيق هذا الهدف؛ لأن ذلك مخالف لدلالات شرعية ظاهرة .
وأساس
الخلل المنهجي في تلك الدعوة يرجع إلى عدم التفريق بين الحالة الاستثنائية
وبين الحالة الأصلية في الشريعة، ففي حال الانحراف والابتعاد عن الحق يجب
أن تقوم خطابات تجعل من أولوياتها إصلاح الخلل الواقع ومحاربة السبل
المؤدية إلى حدوثه مرة أخرى، ولكن ذلك يختلف عن الحالة الأصلية التي يجب
فيها مراعاة دلالات الشريعة نفسها من غير اعتبار شيء آخر.
** المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق