حفلت الحضارة الإسلامية بالكثير من العمائر التي انفرد وتميز بها المجتمع الإسلامي دون غيره من المجتمعات البشرية عبر العصور،
واستمدت هذه العمائر مقومات وجودها وازدهارها من طابع الرحمة والصفاء النفسي والروحي الذي اتصفت به شريعة الإسلام، فقد رأينا منشآت معمارية أقيمت لتتوافر فيها المياه للفقراء وعابري السبيل والمسافرين مثل الأسبلة التي لم تظهر عبر التاريخ إلا في المدن الإسلامية، ووصل الحد إلى إنشاء أحواض لسقاية الدواب والحيوانات وانتشارها على أبواب المدن الإسلامية وعلى طرق السفر والتجارة رحمة بحيوانات الركوب، وظهرت داخل المدن الإسلامية عمائر أخرى منها الحمامات الشعبية والخنقاوات والربط والتكايا وغيرها من المنشآت الروحية التي استهدفت توافر الجو المناسب للعبادة والتقرب الى اللّه سبحانه وتحقيق الصفاء الروحي الذي يبعد الإنسان لساعات معدودة من الليل والنهار عن ماديات الحياة ومشاغلها·
> المنشآت الروحيةفالربط والخانقاوات والزوايا والتكايا عمائر ومنشآت روحية لم يعرفها العالم إلا في المدن الإسلامية، وقد ظهرت هذه المنشآت منذ القرن الأول للهجرة، وانتشرت في شرق العالم الإسلامي في القرن الرابع، وكان يأوي إليها العباد لقضاء ليلهم في العبادة والصلاة والدعاء·
وأول هذه المنشآت ظهورا هو >الرباط<، الذي أسس في أول الأمر كمنشأة عسكرية، وأخذ اسمه من المرابطة في سبيل اللّه، ومنه سميت دعوة >المرابطين< ودولتهم، وسميت مدينة الرباط في المغرب، التي كانت على حدود الدولة الإسلامية، وكانت مأوى للمجاهدين في سبيل اللّه المرابطين على حدود الدولة، ومن المرجح أن نظام الخانقاوات الذي ظهر بعد ذلك أخذ عن الرباط، حيث إنه في الرباط كان المرابطون يؤهلون دينياً وروحياً بجانب تدريبهم عسكرياً للجهاد والدفاع عن حدود الدولة الإسلامية، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللّه لعلكم تفلحون } (آل عمران، 200)، وقال تعالى: {وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم} (الأنفال، 60)، وكان الرباط يقام على الحدود وقد ظهر الرباط قبل الخانقاه·
فالأربطة ظهرت كمنشآت حربية الهدف منها الدفاع عن الثغور الإسلامية في مواجهة أي اعتداءات من قبل أعداء الإسلام، ومازال الى يومنا هذا بتونس اثنان من هذه الأربطة: الأول >رباط المنستير< الذي شيده >هرثمة بن أعين< سنة 180هـ 796/م، والرباط الثاني: هو >رباط سوسة< على خليج قابس في شمال أفريقيا والذي اسس سنة 206 هـ 821/م·
> تقلص دور الأربطةوقد أدى توقف حركة الفتوحات الإسلامية إلى تقلص دور الأربطة، وزاد في هذا تغير نمط الجيوش الإسلامية، وهو ما أدى إلى تغير وظيفة الأربطة، وفقدها لطابعها الحربي، وصارت لها وظائف متعددة، حيث تغلبت عليها الصفة الدينية وحدها، ومع انتشار التصوف تحولت إلى دور للصوفية ما جعل مصطلح >رباط< مرادفا لمصطلحي >خانقاه وزاوية<·وهكذا تبدلت الأمور، وغدت الربط تقام في الأماكن العامرة، بعد أن كانت تقام في أطراف المدن وعلى حدود الدولة، وصارت ملاجئ مستديمة لفريق من الناس يستحقون الرعاية، وبخاصة أصحاب العاهات وكبار السن والعميان، وقد ذكر المقريزي أن سلطان المماليك >بيبرس الجاشنكير< بنى رباط خصصه لمن قعد بهم الوقت، ويقول >ابن الفوطي< عن رباط الشيخ >محمد السكران< في العراق أنه كان مأوى للمسافرين والمحتاجين، وكانت له قواعد معينة في توزيع المال والطعام على الفقراء كل عام·
> عمائر لرعاية النساءوظهرت في المدن الإسلامية ربط تحقق الرعاية الاجتماعية للنساء، فقد، وُجدت أربطة كانت ملاذاً ومقاماً للسيدات والأرامل والمطلقات والمسنات ممن لا عائل لهن وممن قعد بهن الزمن، توفر لهن حياة كريمة شريفة من إقامة ومأكل وملبس ومشرب صيانة لهن من الانحراف، مع مواظبتهن على العبادات وتوافر الرعاية والإشراف الدائم·
وكانت تقيم إحداهن بالرباط إلى أن تتزوج أو تعود إلى زوجها أو يقضي اللّه أمراً كان مفعولاً، وهو سبق لامراء فيه للحضارة الإسلامية في مجال الرعاية الاجتماعية·
وقد انتشرت هذه الأربطة في المدن الإسلامية، فقد أوقف الخليفة العباسي المستعصم باللّه دار الشط المجاورة لدار الملك ببغداد سنة 652 هـ رباطاً للنساء المحتاجات وجعل مشيخته للشريفة >أنَّة المهتدي باللّه< وهي التي كانت تتولى تعليمهن وإرشادهن·
وفي دمشق أنشأت >فاطمة الأيوبية< سنة 650 هـ/ 1252م رباطاً للنساء الفقيرات وكتبت فوق بابه >وقفت هذه الخانكاه الرباط فاطمة بنت الملك العادل محمد بن الكمل بن أي بكر بن أيوب على المقيمات بها، وإظهاراً للصلوات الخمس والمبيت فيها<·
وزخرت مدينة فاس بالكثير من الأربطة الخاصة برعاية النساء حتى نستطيع أن نعتبرها أهم المدن الإسلامية في مجال منشآت الرعاية الإجتماعية·
وانتشرت أربطة النساء في مدينتي القاهرة والفسطاط، فيذكر >المقريزي< مؤرخ مصر الإسلامية عن هذه الأربطة: أنها كانت دوراً يطلق على كل منها رباط، وأنها على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبي [، يكون فيها العجائز والأرامل والعابدات، وكانت لها الجرايات·
وقال >المقريزي< عن رباط البغدادية في مصر >وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طُلقن أو هُجرن حتى يتزوجن أو يرجعن الى أزواجهن رعاية لهن··· وفيها من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات<·
> ظهور الخانقاواتوتاريخ الخانقاوات يرجع الى زمن >ذى النون< المصري و>ابن الفارض< والصوفية والمتعبدين حيث اختلف الأمر في تاريخها بين الناس، ولكن من المؤكد أن كلمه الصوفية تعني الصفاء الروحي، والخناقاوات قد فسرها >الجاحظ وابن بطوطة والمقريزي< بأنها كلمة باللغة الفارسية تعني: >بيت العبادة<، ومعروف أن هذه الخانقاوات ظهرت في القرن الرابع الهجري ووصلت الى قمة مجدها في القرن السادس، وسميت في بلاد المغرب العربي بالزوايا، وهذا ما جعل >ابن بطوطة< يطلق على الخانقاوات التي رأها في مصر لفظ >الزوايا<، إذ يقول في معرض حديثة عن مصر >وأما الزوايا فكثيرة، وهم يسمونها خوانق، واحدتها خانقة<، واستخدم المقريزي مصطلح الزاوية بالمعنى عينه إذ فرق في بغداد بين الخانقاوات والربط والزوايا، وذكر كل نوع في قائمة مستقلة، الا أنه في تعريفه لكل منها لم يخرج عن معنى واحد هو أنها جميعاً كانت بيت الصوفية ومنزلهم·
و>خانقاه< كلمة مركبة من أصل فارسي، ومعناها >دار التعبد<، وهي نوع من المعابد التي يلزمها نفر من المسلمين فيحبسون أنفسهم من أجل التعبد، من دون أن يزاولوا أي عمل آخر، معتمدين على ما يوقفه عليهم الأغنياء من مأكل وملبس، وقد أقيمت أول خانقاه في الإسلام في القرن الرابع الهجري، إلا أنه قبل ذلك بكثير أقام >زيد بن صبرة< في البصرة بالعراق في عهد الخليفة >عثمان بن عفان ]< أول مسكن لإقامة بعض المسلمين حتى يتفرغوا للعبادة طوال اليوم، وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات فبنى لهم دوراً وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يصلحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره·
ولا يعرف الشكل الأول لهذه المباني التي انتشرت بعد ذلك عبر العالم الاسلامي وهي من العمائر الدينية المهمة عند المسلمين التي انتشرت لإيواء المتصوفة المنقطعين للعبادة·
> الرجوع الى اللّهويعود انتشار هذه المنشآت في العالم الإسلامي في نهاية العصور الوسطى إلى الظروف التي أحاطت بالمسلمين وأدت الى اشتداد تيار التصوف بعد أن كان هادئا، فأقبل كثيرون على حياة الزهد والعبادة إيماناً منهم بأن الرجوع الى اللّه هو خير وسيلة لكشف الغمة التي حلت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولذا انتشرت الخانقاوات والزوايا لاستيعاب هؤلاء الراجعين الى اللّه·
وكان المتصوفة يعيشون داخل الخانقاوات أو الزوايا وفق نظام دقيق في المأكل والمبيت ومباشرة ضروب العبادة من صلاة وذكر وغير ذلك، وفي داخل الخانقاه عدد معين من الخلوات لكل متصوف خلوة يتعبد فيها عندما يخلو بنفسه في غير أوقات صلاة الجماعة·
وكان لكل خانقاه أو زاوية شيخ يرأس المتصوفة فيها، روعي فيه أن يكون من الجماعة المنصوفة، ممن عرف بصحبة المشايخ، وألا يكون قد اتخذ من التصوف حرفة·
كذلك كان لكل خانقاه حمام ومطبخ وخزانة للأشربة والأدوية، كما عين لكل خانقاه حلاق لحلق الرؤوس، هذا فضلاً عن طبيب وكحال، وبذلك يتوافر لأهل الخانقاه كل الضرورات التي تغنيهم عن العالم الخارجي·
وقد أشار المقدسي إلى أن الخوانق كانت جزءاً أساسياً من النظام الديني للكرّامية وقد ازدهرت جماعة الكرّامي في >خراسان، وجورجان، وطبريستان<، وغرب القدس حول قبر >ابن كرّام< وكان لهم خوانق ويعتبر نهاية القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، بداية تطور الخوانق بظهور الشيوخ في نيسابور، وهو ما أشار إليه >المقريزي<، وتعتبر فترة النصف الأول من القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، فترة التأسيس والتنظيم، ومنذ هذه الفترة ألحق المدفن بالخانقاه وقد ارتبط التصوف بالمذهب الشافعي ثم بالمذهب المالكي، الى الانتشار الكبير والسريع خارج إيران، وأنشأ >السلاجقة< في الربع الثالث من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي مجموعة من الخوانق في سوريا ودمشق·
> خانقاه صلاح الدينوفي مصر يذكر أن أول الخانقاوات >خانقاه سعيد السعداء< التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، وعرفت باسم خانقاه الصالحية، وأوقف لها الأوقاف، ولهذه الخانقاه قصة فهي في الأصل تخص أحد القائمين بالخدمة في عهد الخليفة >المستنصر< وهو عنبر، الا أنه قتل وصلب على باب زويله، وسكنها من بعده الصالح >طلائع< ثم الوزير >شاور<، وعندما جاء زمن >صلاح الدين الأيوبي< بعد انقضاء عهد الفاطميين في مصر جعلها وقفا للصوفية ولقب شيخها بشيخ الشيوخ وأوقف هذه الخانقاه على فقراء الصوفية، ورتب لهم طعاما وبنى لهم حماما في الدار·
> عمائر العصر المملوكيوعندما كثر المتصوفة الراغبون في العيش بالخانقاوات في العصر المملوكي، بنيت عدد من الخانقاوات في منطقة صحراء المماليك والجمالية والسيدة زينب مثل: >خانقاه السلطان الأشرف برسباى< و>خانقاه السلطان الناصر فرج بن برقوق< في صحراء المماليك و>خانقاه بيبرس الجاشنكير< في شارع الجمالية و>خانقاه الجاولي< في شارع مراسينا في حي السيدة زينب >وخانقاه وقبة شيخون >في شارع الصليبة وقد اختصت هذه الخانقاوات بالكثير من الفنون الإسلامية الجميلة لأن معظمها أنشئت في العصر المملوكي وكان إنشاء أي خانقاه يعتبر هدية مملوكية للشعب ولفقراء الصوفية فكان الأمراء والسلاطين يقومون بوقفها وافتتاحها بأنفسهم في احتفال مهيب، فقد ذكر >ابن بطوطة< أن أمراء مصر كانوا يتنافسون في بناء الزوايا والخانقاوات فإذا تم بناء إحداها افتتحها السلطان في حفل كبير يحضره رجال الدين والقضاة ومشايخ الصوفية·
أما التميز المعماري فنجده يشتمل على الكثير من آيات التفوق كما يؤكد د· >عاصم رزق< في كتابه >خانقاوات الصوفية في مصر< حيث أظهر المعماريون تفوقهم في تصميم المداخل والمخارج والمحاريب والنقش والكتابة، فلم يكن هناك فارق يذكر بين تخطيط المسجد والخانقاه·
وقد تطور الأمر وبدأ المسلمون يدرسون في هذه الخانقاوات المذاهب الفقهية وكانت تختص كل خانقاه في القرن الثامن الهجري بمذهب، فقد كان فقه الإمام الشافعي يدرس في الخانقاه الجاولية، والحنفي في الخانقاه الجمالية، بينما درست المذاهب الأربعة في الخانقاه الشيخونية·
> خانقاه بيبرسومن أشهر خانقاوات العصر المملوكي خانقاه >بيبرس الجاشنكير< التي أنشأها في القاهرة العام 706هـ، 1309م، قبل أن يتولى السلطة، وأنشأ بجانبها رباطاً كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وألحق فيها قبة كبيرة، وأسكن فيها 40 صوفيا، وبالرباط 100 جندي·
وتقع هذه الخانقاه حاليا في شارع الجمالية، وكان موقعها جزءاً من أرض دار الوزارة الفاطمية الكبرى التي أنشأها الوزير الفاطمي >الأفضل شاهنشاه< ابن بدر الجمالي، وتتألف الخانقاه من صحن مستطيل التخطيط في جانبين متقابلين منه إيوانان كبيران معقودان، أحدهما إيوان القبلة، وفي الجانبين الآخرين خلاوي للصوفية، بعضها فوق بعض، ويتوسط إيوان القبلة محراب حجري يتميز بالبساطة والخلو من الزخارف بما يتناسب مع طبيعة الخانقاه، ومدخل الخانقاه يعلوه عقدة مستديرة الشكل، وتعلوه المئذنة، ويجاور المدخل الضريح الذي تعلوه القبة·
> تكايا العصر العثمانيوفي العصر العثماني تغير الحال وهجرت هذه الخانقاوات وحلت مكانها التكايا، وتكاد التكية أن تكون مثل الخانقاه من حيث الغاية، والذين يقصدونها يعيشون مما تنفقه عليهم الأوقاف المحبوسة من أهل البر والإحسان، وفي المرحلة الأولى من العهد العثماني قام نظام الدراويش الذين كانوا يجتمعون في مساجد عُرفت باسم التكايا، ولا فرق بين الخانقاه والتكية سوى أن الأولى عرفت في العصر الأيوبي والعصر المملوكي والثانية عُرفت في العهد العثماني، فالتكية من المنشآت الدينية التي حلت محل >الخانقاوات< المملوكية في العصر العثماني، بحيث اختفى لفظ >خانقاه< من البلاد التي استولت عليها الدولة العثمانية·
والواقع أن التكية أخذت تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تقوم بها الخنقاوات، أي أنها خاصة بإقامة المنقطعين للعبادة من المتصوفة، كما أنها قامت خلال العصر العثماني بدور آخر وهو تطبيب المرضى وعلاجهم، وهو الدور الذي كانت تقوم به البيمارستانات في العصر الأيوبي والمملوكي، فمع بداية العصر العثماني أهمل أمر البيمارستانات وأضيفت مهمتها إلى التكايا·
ولقد تطور دور التكايا بعد ذلك، وأصبحت خاصة بإقامة العاطلين من العثمانيين المهاجرين من الدولة الأم والنازحين إلى الولايات الغنية مثل مصر والشام، ولهذا صحَّ إطلاق لفظ >التكية<، ومعناها مكان يسكنه الدراويش، وهم طائفة من الصوفية العثمانية مثل >المولوية والنقشبندية<، والأغراب وغالبا ممن ليس لهم مورد الكسب·
وقد وقفت على التكية الأوقاف وصرفت لها المرتبات الشهرية، ولذا سمي محل إقامة الدراويش والتنابلة >تكية<، لأن أهلها متكئون أي معتمدون في أرزاقهم على مرتباتهم في التكية، واستمر سلاطين آل عثمان وأمراء المماليك وكبار المصريين في الإنفاق على تلك المباني وعلى سكانها·
والكثيرون من علماء الآثار والعمارة الإسلامية يعتبرون >التكية< تطوراً لفكرة >الخانقاه< التي أقيمت منذ العصر الأيوبي، واستمرت وازدهرت خلال العصر المملوكي، وهي تتشابه مع الخانقاه من حيث الوظيفة كمبنى تقام به حلقات الدروس للمتصوفين بينما تكون الدراسة في الخانقاه إجبارية، ومن ثم يتولى مشيختها كبار العلماء والفقهاء وتمنح الدارسين بها إجازات علمية، أما التكية فلا التزام على المقيمين بها، ومن ثم فلا تقوم فيها فصول للدراسة المنتظمة، وإن كان الأمر لا يخلو من عقد محاضرات للوعظ والإرشاد تنعقد فيها حلقات الذكر·
والتكية بناء شبيه بالفندق، وهي خاصة بأصحاب الصوفية الذين ينزلون فيها مجاناً من أجل التعبد وممارسة الطقوس الصوفية والرياضة الروحية برئاسة شيخ يرعى شؤون الدروايش، وقد انتشرت التكايا في أراضي السلطنة العثمانية وبقيت قائمة حتى الحرب العالمية الأولى، ثم أهملت وما بقي منها في تركيا ألغاه مصطفى أتاتورك، وحول المباني إلى مؤسسات عامة ومتاحف وطنية·
ومن أشهر التكايا العثمانية في مدينة القاهرة >التكية السليمانية< التي أنشأها الأمير العثماني >سليمان باشا< العام 950هـ بالسروجية، و>التكية الرفاعية< 1188 هــ في بولاق، وهي تخص طائفة الرفاعية الصوفية، ولعل من أشهر التكايا العثمانية التي ما زالت مستخدمة الى الآن حيث يشغلها مسرح الدراويش هي تكية الدراويش >المولوية< نسبة لطائفة الدراويش المولوية إحدى الطوائف الصوفية العثمانية، ومسرح الدراويش تابع لقطاع المسرح في وزارة الثقافة المصرية·
ومن التكايا التي كانت معروفة في سوريا >تكية السلطان سليم< في دمشق، وقد ألغيت وألُحق المبنى بالجامعة السورية وفي لبنان عرفت >التكية المولوية< في مدينة طرابس وتعرف باسم >الدرويشية< وهي اليوم ملك لـ >آل المولوى< الذين كانوا قديماً شيوخ هذه التكية·
> عمارة الخانقاوات والتكاياوعمارة الخانقاه كان يشبه الى حد كبير عمارة المدرسة، ولا يختلف مسقط الخانقاه عن مسقط المدرسة، إلا أنه في بعض الأحيان تعمل الخلوات في جناح منفصل وذلك إذا اجتمعت المدرسة والخانقاه في مجموعة واحدة مثلما حدث في مدرسة وخانقاه برقوق في النحاسين حيث عملت الخلوات منفصلة في أربع وحدات سكنية خلف المدرسة في الجهة الغربية·
أما تصميم التكية المعماري فكان يختلف عن عمارة الخانقاه، فبينما يحتوي الاثنان على صحن (فناء مكشوف)، إلا أن الخانقاه عبارة عن صحن مكشوف تحيط به إيوانات متعامدة تستخدم لعقد حلقات الدراسة، وهذه الإيوانات تتعامد على الصحن المربع، وفي أركان هذا المربع توجد خلاوي الصوفية، أي الأماكن أو الحجرات السكنية الخاصة بهم·
أما التكية فهي عبارة عن صحن مكشوف يأخذ الشكل المربع تحيط به من الجوانب الأربع أربع ظلات، كل ظلة مكونة من رواق واحد، وخلف كل رواق توجد حجرات الصوفية السكنية، وهذه الحجرات دائما ما تتكون من طابق واحد أرضي، أما في الخانقاوات فقد تتعدى الطابق لتصل إلى أربعة طوابق·
كما أنه ليس بالتكية مئذنة أو منبر، أي ليست جامعا أو مدرسة، وإنما نجد في جهة القبلة حجرة صغيرة فيها محراب لإقامة الصلوات، وأيضا ليجتمع الدراويش في حلقات لذكر اللّه·
أما في الخانقاه فنجد كثيرا من الآثار الإسلامية مثل المساجد والمدارس المملوكية والأضرحة ما يعتبره علماء الآثار مسجدا وخانقاه في آن واحد، مثل جامع وخانقاه >علاء الدين البندقداري الصالحي البخمي< 683 هـ، والتي عرفت >بالخانقاه البندقدارية<، و>مدرسة وخانقاه >بيبرس الجاشنكير< 708هـ·
وهكذا نجد أن عمارة التكية تكون مستقلة بذاتها، أما الخانقاه فقد تكون المنشأة جامعا أو مدرسة وخانقاه في آن واحد· وتشتمل التكية على مطبخ ومكتبة ودورة مياه ومستحم، وتكون أسقفها عبارة عن قباب متفاوتة الحجم، فحجرة الدرس تغطَّى بقبة كبيرة، وحجرات سكن الدروايش لها قباب أقل أرتفاعاً من حجرة الدرس أي مستوى وسط، وأخيرا قباب الظلات نجدها أقل في الارتفاع من قباب حجرات سكن الدروايش، وقد جرت العادة على دفن الدراويش فيها بحوش ملحق بالمبنى، وتوضع دورات المياه كما هو الحال في المدرسة والخانقاه في منسوب منخفض عن منسوب المبنى·
> المراجع:1- مدخل الى الآثار الإسلامية، د· حسن الباشا- دار النهضة العربية، القاهرة 1981م
2- العمارة الإسلامية، د· كمال الدين سامح، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامي، القاهرة 1991م
3- حضارة الإسلام، د· سعيد عبدالفتاح عاشور، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية، القاهرة 1991م
4- التكايا العثمانية من العبّاد إلى العاطلين، منى درويش، الإسلام على الإنترنت 10 يونيو 2001م
5- الأربطة من منشآت رعاية المرأة في الحضارة الإسلامية، خالد عزب، الإسلام على الإنترنت، 30 نوفمبر 2000م
واستمدت هذه العمائر مقومات وجودها وازدهارها من طابع الرحمة والصفاء النفسي والروحي الذي اتصفت به شريعة الإسلام، فقد رأينا منشآت معمارية أقيمت لتتوافر فيها المياه للفقراء وعابري السبيل والمسافرين مثل الأسبلة التي لم تظهر عبر التاريخ إلا في المدن الإسلامية، ووصل الحد إلى إنشاء أحواض لسقاية الدواب والحيوانات وانتشارها على أبواب المدن الإسلامية وعلى طرق السفر والتجارة رحمة بحيوانات الركوب، وظهرت داخل المدن الإسلامية عمائر أخرى منها الحمامات الشعبية والخنقاوات والربط والتكايا وغيرها من المنشآت الروحية التي استهدفت توافر الجو المناسب للعبادة والتقرب الى اللّه سبحانه وتحقيق الصفاء الروحي الذي يبعد الإنسان لساعات معدودة من الليل والنهار عن ماديات الحياة ومشاغلها·
> المنشآت الروحيةفالربط والخانقاوات والزوايا والتكايا عمائر ومنشآت روحية لم يعرفها العالم إلا في المدن الإسلامية، وقد ظهرت هذه المنشآت منذ القرن الأول للهجرة، وانتشرت في شرق العالم الإسلامي في القرن الرابع، وكان يأوي إليها العباد لقضاء ليلهم في العبادة والصلاة والدعاء·
وأول هذه المنشآت ظهورا هو >الرباط<، الذي أسس في أول الأمر كمنشأة عسكرية، وأخذ اسمه من المرابطة في سبيل اللّه، ومنه سميت دعوة >المرابطين< ودولتهم، وسميت مدينة الرباط في المغرب، التي كانت على حدود الدولة الإسلامية، وكانت مأوى للمجاهدين في سبيل اللّه المرابطين على حدود الدولة، ومن المرجح أن نظام الخانقاوات الذي ظهر بعد ذلك أخذ عن الرباط، حيث إنه في الرباط كان المرابطون يؤهلون دينياً وروحياً بجانب تدريبهم عسكرياً للجهاد والدفاع عن حدود الدولة الإسلامية، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللّه لعلكم تفلحون } (آل عمران، 200)، وقال تعالى: {وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم} (الأنفال، 60)، وكان الرباط يقام على الحدود وقد ظهر الرباط قبل الخانقاه·
فالأربطة ظهرت كمنشآت حربية الهدف منها الدفاع عن الثغور الإسلامية في مواجهة أي اعتداءات من قبل أعداء الإسلام، ومازال الى يومنا هذا بتونس اثنان من هذه الأربطة: الأول >رباط المنستير< الذي شيده >هرثمة بن أعين< سنة 180هـ 796/م، والرباط الثاني: هو >رباط سوسة< على خليج قابس في شمال أفريقيا والذي اسس سنة 206 هـ 821/م·
> تقلص دور الأربطةوقد أدى توقف حركة الفتوحات الإسلامية إلى تقلص دور الأربطة، وزاد في هذا تغير نمط الجيوش الإسلامية، وهو ما أدى إلى تغير وظيفة الأربطة، وفقدها لطابعها الحربي، وصارت لها وظائف متعددة، حيث تغلبت عليها الصفة الدينية وحدها، ومع انتشار التصوف تحولت إلى دور للصوفية ما جعل مصطلح >رباط< مرادفا لمصطلحي >خانقاه وزاوية<·وهكذا تبدلت الأمور، وغدت الربط تقام في الأماكن العامرة، بعد أن كانت تقام في أطراف المدن وعلى حدود الدولة، وصارت ملاجئ مستديمة لفريق من الناس يستحقون الرعاية، وبخاصة أصحاب العاهات وكبار السن والعميان، وقد ذكر المقريزي أن سلطان المماليك >بيبرس الجاشنكير< بنى رباط خصصه لمن قعد بهم الوقت، ويقول >ابن الفوطي< عن رباط الشيخ >محمد السكران< في العراق أنه كان مأوى للمسافرين والمحتاجين، وكانت له قواعد معينة في توزيع المال والطعام على الفقراء كل عام·
> عمائر لرعاية النساءوظهرت في المدن الإسلامية ربط تحقق الرعاية الاجتماعية للنساء، فقد، وُجدت أربطة كانت ملاذاً ومقاماً للسيدات والأرامل والمطلقات والمسنات ممن لا عائل لهن وممن قعد بهن الزمن، توفر لهن حياة كريمة شريفة من إقامة ومأكل وملبس ومشرب صيانة لهن من الانحراف، مع مواظبتهن على العبادات وتوافر الرعاية والإشراف الدائم·
وكانت تقيم إحداهن بالرباط إلى أن تتزوج أو تعود إلى زوجها أو يقضي اللّه أمراً كان مفعولاً، وهو سبق لامراء فيه للحضارة الإسلامية في مجال الرعاية الاجتماعية·
وقد انتشرت هذه الأربطة في المدن الإسلامية، فقد أوقف الخليفة العباسي المستعصم باللّه دار الشط المجاورة لدار الملك ببغداد سنة 652 هـ رباطاً للنساء المحتاجات وجعل مشيخته للشريفة >أنَّة المهتدي باللّه< وهي التي كانت تتولى تعليمهن وإرشادهن·
وفي دمشق أنشأت >فاطمة الأيوبية< سنة 650 هـ/ 1252م رباطاً للنساء الفقيرات وكتبت فوق بابه >وقفت هذه الخانكاه الرباط فاطمة بنت الملك العادل محمد بن الكمل بن أي بكر بن أيوب على المقيمات بها، وإظهاراً للصلوات الخمس والمبيت فيها<·
وزخرت مدينة فاس بالكثير من الأربطة الخاصة برعاية النساء حتى نستطيع أن نعتبرها أهم المدن الإسلامية في مجال منشآت الرعاية الإجتماعية·
وانتشرت أربطة النساء في مدينتي القاهرة والفسطاط، فيذكر >المقريزي< مؤرخ مصر الإسلامية عن هذه الأربطة: أنها كانت دوراً يطلق على كل منها رباط، وأنها على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبي [، يكون فيها العجائز والأرامل والعابدات، وكانت لها الجرايات·
وقال >المقريزي< عن رباط البغدادية في مصر >وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طُلقن أو هُجرن حتى يتزوجن أو يرجعن الى أزواجهن رعاية لهن··· وفيها من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات<·
> ظهور الخانقاواتوتاريخ الخانقاوات يرجع الى زمن >ذى النون< المصري و>ابن الفارض< والصوفية والمتعبدين حيث اختلف الأمر في تاريخها بين الناس، ولكن من المؤكد أن كلمه الصوفية تعني الصفاء الروحي، والخناقاوات قد فسرها >الجاحظ وابن بطوطة والمقريزي< بأنها كلمة باللغة الفارسية تعني: >بيت العبادة<، ومعروف أن هذه الخانقاوات ظهرت في القرن الرابع الهجري ووصلت الى قمة مجدها في القرن السادس، وسميت في بلاد المغرب العربي بالزوايا، وهذا ما جعل >ابن بطوطة< يطلق على الخانقاوات التي رأها في مصر لفظ >الزوايا<، إذ يقول في معرض حديثة عن مصر >وأما الزوايا فكثيرة، وهم يسمونها خوانق، واحدتها خانقة<، واستخدم المقريزي مصطلح الزاوية بالمعنى عينه إذ فرق في بغداد بين الخانقاوات والربط والزوايا، وذكر كل نوع في قائمة مستقلة، الا أنه في تعريفه لكل منها لم يخرج عن معنى واحد هو أنها جميعاً كانت بيت الصوفية ومنزلهم·
و>خانقاه< كلمة مركبة من أصل فارسي، ومعناها >دار التعبد<، وهي نوع من المعابد التي يلزمها نفر من المسلمين فيحبسون أنفسهم من أجل التعبد، من دون أن يزاولوا أي عمل آخر، معتمدين على ما يوقفه عليهم الأغنياء من مأكل وملبس، وقد أقيمت أول خانقاه في الإسلام في القرن الرابع الهجري، إلا أنه قبل ذلك بكثير أقام >زيد بن صبرة< في البصرة بالعراق في عهد الخليفة >عثمان بن عفان ]< أول مسكن لإقامة بعض المسلمين حتى يتفرغوا للعبادة طوال اليوم، وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات فبنى لهم دوراً وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يصلحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره·
ولا يعرف الشكل الأول لهذه المباني التي انتشرت بعد ذلك عبر العالم الاسلامي وهي من العمائر الدينية المهمة عند المسلمين التي انتشرت لإيواء المتصوفة المنقطعين للعبادة·
> الرجوع الى اللّهويعود انتشار هذه المنشآت في العالم الإسلامي في نهاية العصور الوسطى إلى الظروف التي أحاطت بالمسلمين وأدت الى اشتداد تيار التصوف بعد أن كان هادئا، فأقبل كثيرون على حياة الزهد والعبادة إيماناً منهم بأن الرجوع الى اللّه هو خير وسيلة لكشف الغمة التي حلت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولذا انتشرت الخانقاوات والزوايا لاستيعاب هؤلاء الراجعين الى اللّه·
وكان المتصوفة يعيشون داخل الخانقاوات أو الزوايا وفق نظام دقيق في المأكل والمبيت ومباشرة ضروب العبادة من صلاة وذكر وغير ذلك، وفي داخل الخانقاه عدد معين من الخلوات لكل متصوف خلوة يتعبد فيها عندما يخلو بنفسه في غير أوقات صلاة الجماعة·
وكان لكل خانقاه أو زاوية شيخ يرأس المتصوفة فيها، روعي فيه أن يكون من الجماعة المنصوفة، ممن عرف بصحبة المشايخ، وألا يكون قد اتخذ من التصوف حرفة·
كذلك كان لكل خانقاه حمام ومطبخ وخزانة للأشربة والأدوية، كما عين لكل خانقاه حلاق لحلق الرؤوس، هذا فضلاً عن طبيب وكحال، وبذلك يتوافر لأهل الخانقاه كل الضرورات التي تغنيهم عن العالم الخارجي·
وقد أشار المقدسي إلى أن الخوانق كانت جزءاً أساسياً من النظام الديني للكرّامية وقد ازدهرت جماعة الكرّامي في >خراسان، وجورجان، وطبريستان<، وغرب القدس حول قبر >ابن كرّام< وكان لهم خوانق ويعتبر نهاية القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، بداية تطور الخوانق بظهور الشيوخ في نيسابور، وهو ما أشار إليه >المقريزي<، وتعتبر فترة النصف الأول من القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، فترة التأسيس والتنظيم، ومنذ هذه الفترة ألحق المدفن بالخانقاه وقد ارتبط التصوف بالمذهب الشافعي ثم بالمذهب المالكي، الى الانتشار الكبير والسريع خارج إيران، وأنشأ >السلاجقة< في الربع الثالث من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي مجموعة من الخوانق في سوريا ودمشق·
> خانقاه صلاح الدينوفي مصر يذكر أن أول الخانقاوات >خانقاه سعيد السعداء< التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، وعرفت باسم خانقاه الصالحية، وأوقف لها الأوقاف، ولهذه الخانقاه قصة فهي في الأصل تخص أحد القائمين بالخدمة في عهد الخليفة >المستنصر< وهو عنبر، الا أنه قتل وصلب على باب زويله، وسكنها من بعده الصالح >طلائع< ثم الوزير >شاور<، وعندما جاء زمن >صلاح الدين الأيوبي< بعد انقضاء عهد الفاطميين في مصر جعلها وقفا للصوفية ولقب شيخها بشيخ الشيوخ وأوقف هذه الخانقاه على فقراء الصوفية، ورتب لهم طعاما وبنى لهم حماما في الدار·
> عمائر العصر المملوكيوعندما كثر المتصوفة الراغبون في العيش بالخانقاوات في العصر المملوكي، بنيت عدد من الخانقاوات في منطقة صحراء المماليك والجمالية والسيدة زينب مثل: >خانقاه السلطان الأشرف برسباى< و>خانقاه السلطان الناصر فرج بن برقوق< في صحراء المماليك و>خانقاه بيبرس الجاشنكير< في شارع الجمالية و>خانقاه الجاولي< في شارع مراسينا في حي السيدة زينب >وخانقاه وقبة شيخون >في شارع الصليبة وقد اختصت هذه الخانقاوات بالكثير من الفنون الإسلامية الجميلة لأن معظمها أنشئت في العصر المملوكي وكان إنشاء أي خانقاه يعتبر هدية مملوكية للشعب ولفقراء الصوفية فكان الأمراء والسلاطين يقومون بوقفها وافتتاحها بأنفسهم في احتفال مهيب، فقد ذكر >ابن بطوطة< أن أمراء مصر كانوا يتنافسون في بناء الزوايا والخانقاوات فإذا تم بناء إحداها افتتحها السلطان في حفل كبير يحضره رجال الدين والقضاة ومشايخ الصوفية·
أما التميز المعماري فنجده يشتمل على الكثير من آيات التفوق كما يؤكد د· >عاصم رزق< في كتابه >خانقاوات الصوفية في مصر< حيث أظهر المعماريون تفوقهم في تصميم المداخل والمخارج والمحاريب والنقش والكتابة، فلم يكن هناك فارق يذكر بين تخطيط المسجد والخانقاه·
وقد تطور الأمر وبدأ المسلمون يدرسون في هذه الخانقاوات المذاهب الفقهية وكانت تختص كل خانقاه في القرن الثامن الهجري بمذهب، فقد كان فقه الإمام الشافعي يدرس في الخانقاه الجاولية، والحنفي في الخانقاه الجمالية، بينما درست المذاهب الأربعة في الخانقاه الشيخونية·
> خانقاه بيبرسومن أشهر خانقاوات العصر المملوكي خانقاه >بيبرس الجاشنكير< التي أنشأها في القاهرة العام 706هـ، 1309م، قبل أن يتولى السلطة، وأنشأ بجانبها رباطاً كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وألحق فيها قبة كبيرة، وأسكن فيها 40 صوفيا، وبالرباط 100 جندي·
وتقع هذه الخانقاه حاليا في شارع الجمالية، وكان موقعها جزءاً من أرض دار الوزارة الفاطمية الكبرى التي أنشأها الوزير الفاطمي >الأفضل شاهنشاه< ابن بدر الجمالي، وتتألف الخانقاه من صحن مستطيل التخطيط في جانبين متقابلين منه إيوانان كبيران معقودان، أحدهما إيوان القبلة، وفي الجانبين الآخرين خلاوي للصوفية، بعضها فوق بعض، ويتوسط إيوان القبلة محراب حجري يتميز بالبساطة والخلو من الزخارف بما يتناسب مع طبيعة الخانقاه، ومدخل الخانقاه يعلوه عقدة مستديرة الشكل، وتعلوه المئذنة، ويجاور المدخل الضريح الذي تعلوه القبة·
> تكايا العصر العثمانيوفي العصر العثماني تغير الحال وهجرت هذه الخانقاوات وحلت مكانها التكايا، وتكاد التكية أن تكون مثل الخانقاه من حيث الغاية، والذين يقصدونها يعيشون مما تنفقه عليهم الأوقاف المحبوسة من أهل البر والإحسان، وفي المرحلة الأولى من العهد العثماني قام نظام الدراويش الذين كانوا يجتمعون في مساجد عُرفت باسم التكايا، ولا فرق بين الخانقاه والتكية سوى أن الأولى عرفت في العصر الأيوبي والعصر المملوكي والثانية عُرفت في العهد العثماني، فالتكية من المنشآت الدينية التي حلت محل >الخانقاوات< المملوكية في العصر العثماني، بحيث اختفى لفظ >خانقاه< من البلاد التي استولت عليها الدولة العثمانية·
والواقع أن التكية أخذت تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تقوم بها الخنقاوات، أي أنها خاصة بإقامة المنقطعين للعبادة من المتصوفة، كما أنها قامت خلال العصر العثماني بدور آخر وهو تطبيب المرضى وعلاجهم، وهو الدور الذي كانت تقوم به البيمارستانات في العصر الأيوبي والمملوكي، فمع بداية العصر العثماني أهمل أمر البيمارستانات وأضيفت مهمتها إلى التكايا·
ولقد تطور دور التكايا بعد ذلك، وأصبحت خاصة بإقامة العاطلين من العثمانيين المهاجرين من الدولة الأم والنازحين إلى الولايات الغنية مثل مصر والشام، ولهذا صحَّ إطلاق لفظ >التكية<، ومعناها مكان يسكنه الدراويش، وهم طائفة من الصوفية العثمانية مثل >المولوية والنقشبندية<، والأغراب وغالبا ممن ليس لهم مورد الكسب·
وقد وقفت على التكية الأوقاف وصرفت لها المرتبات الشهرية، ولذا سمي محل إقامة الدراويش والتنابلة >تكية<، لأن أهلها متكئون أي معتمدون في أرزاقهم على مرتباتهم في التكية، واستمر سلاطين آل عثمان وأمراء المماليك وكبار المصريين في الإنفاق على تلك المباني وعلى سكانها·
والكثيرون من علماء الآثار والعمارة الإسلامية يعتبرون >التكية< تطوراً لفكرة >الخانقاه< التي أقيمت منذ العصر الأيوبي، واستمرت وازدهرت خلال العصر المملوكي، وهي تتشابه مع الخانقاه من حيث الوظيفة كمبنى تقام به حلقات الدروس للمتصوفين بينما تكون الدراسة في الخانقاه إجبارية، ومن ثم يتولى مشيختها كبار العلماء والفقهاء وتمنح الدارسين بها إجازات علمية، أما التكية فلا التزام على المقيمين بها، ومن ثم فلا تقوم فيها فصول للدراسة المنتظمة، وإن كان الأمر لا يخلو من عقد محاضرات للوعظ والإرشاد تنعقد فيها حلقات الذكر·
والتكية بناء شبيه بالفندق، وهي خاصة بأصحاب الصوفية الذين ينزلون فيها مجاناً من أجل التعبد وممارسة الطقوس الصوفية والرياضة الروحية برئاسة شيخ يرعى شؤون الدروايش، وقد انتشرت التكايا في أراضي السلطنة العثمانية وبقيت قائمة حتى الحرب العالمية الأولى، ثم أهملت وما بقي منها في تركيا ألغاه مصطفى أتاتورك، وحول المباني إلى مؤسسات عامة ومتاحف وطنية·
ومن أشهر التكايا العثمانية في مدينة القاهرة >التكية السليمانية< التي أنشأها الأمير العثماني >سليمان باشا< العام 950هـ بالسروجية، و>التكية الرفاعية< 1188 هــ في بولاق، وهي تخص طائفة الرفاعية الصوفية، ولعل من أشهر التكايا العثمانية التي ما زالت مستخدمة الى الآن حيث يشغلها مسرح الدراويش هي تكية الدراويش >المولوية< نسبة لطائفة الدراويش المولوية إحدى الطوائف الصوفية العثمانية، ومسرح الدراويش تابع لقطاع المسرح في وزارة الثقافة المصرية·
ومن التكايا التي كانت معروفة في سوريا >تكية السلطان سليم< في دمشق، وقد ألغيت وألُحق المبنى بالجامعة السورية وفي لبنان عرفت >التكية المولوية< في مدينة طرابس وتعرف باسم >الدرويشية< وهي اليوم ملك لـ >آل المولوى< الذين كانوا قديماً شيوخ هذه التكية·
> عمارة الخانقاوات والتكاياوعمارة الخانقاه كان يشبه الى حد كبير عمارة المدرسة، ولا يختلف مسقط الخانقاه عن مسقط المدرسة، إلا أنه في بعض الأحيان تعمل الخلوات في جناح منفصل وذلك إذا اجتمعت المدرسة والخانقاه في مجموعة واحدة مثلما حدث في مدرسة وخانقاه برقوق في النحاسين حيث عملت الخلوات منفصلة في أربع وحدات سكنية خلف المدرسة في الجهة الغربية·
أما تصميم التكية المعماري فكان يختلف عن عمارة الخانقاه، فبينما يحتوي الاثنان على صحن (فناء مكشوف)، إلا أن الخانقاه عبارة عن صحن مكشوف تحيط به إيوانات متعامدة تستخدم لعقد حلقات الدراسة، وهذه الإيوانات تتعامد على الصحن المربع، وفي أركان هذا المربع توجد خلاوي الصوفية، أي الأماكن أو الحجرات السكنية الخاصة بهم·
أما التكية فهي عبارة عن صحن مكشوف يأخذ الشكل المربع تحيط به من الجوانب الأربع أربع ظلات، كل ظلة مكونة من رواق واحد، وخلف كل رواق توجد حجرات الصوفية السكنية، وهذه الحجرات دائما ما تتكون من طابق واحد أرضي، أما في الخانقاوات فقد تتعدى الطابق لتصل إلى أربعة طوابق·
كما أنه ليس بالتكية مئذنة أو منبر، أي ليست جامعا أو مدرسة، وإنما نجد في جهة القبلة حجرة صغيرة فيها محراب لإقامة الصلوات، وأيضا ليجتمع الدراويش في حلقات لذكر اللّه·
أما في الخانقاه فنجد كثيرا من الآثار الإسلامية مثل المساجد والمدارس المملوكية والأضرحة ما يعتبره علماء الآثار مسجدا وخانقاه في آن واحد، مثل جامع وخانقاه >علاء الدين البندقداري الصالحي البخمي< 683 هـ، والتي عرفت >بالخانقاه البندقدارية<، و>مدرسة وخانقاه >بيبرس الجاشنكير< 708هـ·
وهكذا نجد أن عمارة التكية تكون مستقلة بذاتها، أما الخانقاه فقد تكون المنشأة جامعا أو مدرسة وخانقاه في آن واحد· وتشتمل التكية على مطبخ ومكتبة ودورة مياه ومستحم، وتكون أسقفها عبارة عن قباب متفاوتة الحجم، فحجرة الدرس تغطَّى بقبة كبيرة، وحجرات سكن الدروايش لها قباب أقل أرتفاعاً من حجرة الدرس أي مستوى وسط، وأخيرا قباب الظلات نجدها أقل في الارتفاع من قباب حجرات سكن الدروايش، وقد جرت العادة على دفن الدراويش فيها بحوش ملحق بالمبنى، وتوضع دورات المياه كما هو الحال في المدرسة والخانقاه في منسوب منخفض عن منسوب المبنى·
> المراجع:1- مدخل الى الآثار الإسلامية، د· حسن الباشا- دار النهضة العربية، القاهرة 1981م
2- العمارة الإسلامية، د· كمال الدين سامح، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامي، القاهرة 1991م
3- حضارة الإسلام، د· سعيد عبدالفتاح عاشور، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية، القاهرة 1991م
4- التكايا العثمانية من العبّاد إلى العاطلين، منى درويش، الإسلام على الإنترنت 10 يونيو 2001م
5- الأربطة من منشآت رعاية المرأة في الحضارة الإسلامية، خالد عزب، الإسلام على الإنترنت، 30 نوفمبر 2000م
منقول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق