الأحد، 10 مايو 2015

مثال لرمزية حديثة للبناء في الاسلام

من الرمزية الحضارية الاسلامية
حين عُهد للمهندس الأميركي من أصل 
صيني، ليو مينغ باي، بتصميم متحف الفنّ الإسلامي في العاصمة القطرية الدوحة، طلب أن يُبنى له أولاً جزيرة! نعم جزيرة في مياه الخليج التي تحتضن ساحل المدينة. 

فوق تلك الجزيرة الاصطناعية المستطيلة، أقام "باي" هذا الصرح المعماري المتميّز، والذي أريد له أن يكون معلماً يحكي تاريخ الحضارة الإسلامية، ويكون علامة للعاصمة العربية التي ترنو إلى أن تكون عاصمة المتاحف في العالم وعاصمة الثقافة في العالم الإسلامي والعربي. 
عام 2008 تمّ افتتاح متحف الفنّ الإسلامي، الذي عرض القطع الفنّية النادرة التي جمعتها دولة قطر على مدار 15 عاماً، من ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، ترصد تاريخ الحضارة الإسلامية، وليكون أحد أبرز إنجازات "متاحف قطر"، التي تترأس مجلس أمنائها الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني. 

تتوغّل الجزيرة 60 متراً في مياه الخليج القطرية، في مكان اختير بدقّة ليسمح لأكبر عدد من العابرين في المكان برؤية المتحف. وكان باي (من مواليد 1917) قد عبّر، قبيل افتتاح المتحف، عن إيمانه بأنّ أي قطعة فنية، مهما كانت بديعة، يمكن لخطأ في موقعها أن يحجب جمالها. لعلّ هذا أيضاً سبب اختياره الهندسة التكعيبية، وتقنية الظلال والأنوار، لتسهم أشعة الشمس القوية على مدار النهار في رسم المتحف، وإظهار جماله، أمّا ليلاً فتقوم أنوار خاصة موزّعة بذكاء وابتكار في إكمال اللعبة المبهرة. 
قام "باي" برحلات في القارات الثلاث نفسها التي جُمعت منها مقتنيات المتحف، ليستلهم من العمارة الإسلامية، وأيضاً ليقترب من أصل تلك المقتنيات وبيئتها الأولى وجوهرها. أُعجب بمساجد مصر والمغرب وقصور الأندلس... ولكنّ أكثر ما فتنه كان مسجد أحمد بن طولون في القاهرة، المبني في القرن السابع الهجري، فاتخذه نواة لتصميمه.


"تحفة نحتية"، صدق باي في تعريف عمله، فهو نحت الحجر بالشمس أو بالأحرى أشعتها وظلالها. 
المناخ الصحراوي الجاف وشمسه المتّقدة فرضت بناء المتحف بالحجر الجيري، الذي يتوافق بدوره مع الهندسة التكعيبية التي اختارها المصمّم. 
كلّ ما يحيط بالمتحف على مساحة 45 ألف متر مربع، صمّم بدقّة عالية، فالحديقة المغطّاة بالحشائش والمزروعة بالأشجار تأخذ شكل هلال، اعتماداً على رمزيته الإسلامية، ويحتضن الهلال الأخضر المتحف من جهة ويترك خلفية زرقاء تصنعها مياه الخليج والسماء. كذلك تُعتبر بوابة المتحف فاتحةً معبّرة لرحلة حقيقية في تاريخ الفنّ الإسلامي. 
المدخل أيضاً مهيب، وهو عبارة عن جسر محفوف بأشجار النخيل، يصل ضفّة الدوحة بالجزيرة الصناعية، ويفضي إلى بهو كبير يرتفع خمسة طوابق، هي طوابق المتحف المنتهية بقبّة زجاجية، تعكس أشعة الشمس في البهو، وتقابلها نافذة مرتفعة (حوالى 46 متراً) تطلّ على العاصمة، هي أشبه بنافذة بين الحاضر والماضي بما فيهما من إرث إنساني وحضاري. 
تتوزّع على الطوابق الخمسة مرافق المتحف، بينها قاعات المعارض والورش الفنية والتعليمية، ويوجد جناح خاص بتعليم الفنّ الإسلامي تاريخاً وتنفيذاً، ومكتبة للقراءة، ومطعم يقدّم أطباقاً من مطابخ حوض المتوسّط والخليج العربي. 


المتحف من الداخل.. فخامة ورحابة (Getty)

تتنوّع المقتنيات بين الزجاجية والخزفية والمخطوطات النادرة والمقتنيات المعدنية والنسيجية... بينها مصابيح مساجد ملوّنة وأقداح ومزهريات تعود إلى العصور الوسطى، والعصر الذهبي للمصنوعات الخزفية والزجاجية الإسلامية، وبعض الخزفيات الإزنيقية التي ازدهرت في زمن الإمبراطورية العثمانية، أواسط القرن السادس عشر الميلادي، حيث وصلت مهارات الخزّافين والرسّامين المسلمين إلى ذروتها. وقد حظي هذا النوع من الفخار بتقدير كبير في البلاط العثماني وبين أفراد الطبقة البورجوازية. 
أما مجموعة المخطوطات فتعتبر الأكبر، إذ تضمّ أكثر من 800 مخطوط، تندرج ضمن المخطوطات القرآنية، وتعود أقدمها إلى القرن السابع الهجري. وإضافة إلى المصاحف، هناك مخطوطات تتناول مواضيع علمية وأدبية ودينية. 
ويعرض المتحف صفحتين من أصل خمس صفحات من "المصحف العبّاسي الأزرق الكبير"، المعروف بأنّه من أجمل وأندر المخطوطات الإسلامية. 
أما المقتنيات المعدنية، فهي من لوازم قصور الخلفاء والسلاطين، إذ كان الحرفيون يصنعون لهم الأواني الثمينة من البرونز والنحاس والفولاذ، ثم يزخرفونها بالذهب والفضّة. وهناك أيضاً الأسلحة والدروع والأدوات العلمية مثل الاسطرلاب والمسبار والميزان... وبين المقتنيات المعدنية مفتاح نادر هو أحد مفاتيح الكعبة، ويعتبر من أبرز هذه المقتنيات، وهو يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وقد بيّنت الأبحاث أنّ الشكل غير الملكي للمفتاح يثبت أنّه صُنع في مكّة، لأنّ المفاتيح الملكية الشكل صنعها المماليك في مصر. 


اختيرت مقتنيات المعرض بحساسية عالية، ليكون الخيار بحدّ ذاته رسالة ثقافية وحضارية. 
تتجلى هذه الرسالة في المعروضات النسيجية، التي تتفرّد في عرض لوحة من الشهنامة الفارسية، أي كتاب الملوك، تعود للقرن الحادي عشر الهجري، هي واحدة من مئات النسخ التي عرفتها هذه الملحمة، نُسخت بتكليف من الملوك الصفويين، الذين حكموا بين القرنين 16 و 18 م. وفي الرقعة تصوير لمعركة زهراب وغوردا فريد، المعروفة بشجاعتها، تحديداً لحظة تمزّق درعها واكتشاف أنّها امرأة. ولهذا الاختيار رمزية خاصّة، فهذه اللقطة هي أحد رموز المساواة بين الجنسين في الثقافة الإيرانية. من بين المقتنيات أيضاً شهادة حجّ تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وهي مستند رسمي وقانوني يحمل اسم الشخص الذي أدّى الفريضة، وهو سيّد يوسف بن سيّد شهاب الدين ما وراء النهري. المتميّز فيها أنّ طولها يبلغ نحو سبعة أمتار، وهي تحوي صوراً رمزية تمثّل المراحل التي اجتازها الحاجّ عند زيارته المواقع المقدّسة، بما في ذلك مكة والمدينة والقدس. وتصوّر الشهادة كذلك رسماً ضخماً لنعال النبي محمّد، في أسفل الوثيقة يوجد توقيع الشهود كنوع من الإقرار بأداء الحج، ما يجعلها وثيقة اجتماعية ودينية 
منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق