الأحد، 2 يونيو 2013

عمارة الكون و نصوص الوحي



بسم الله الرحمن الرحيم
هذا البحث نشر في مجلة إسلامية المعرفة التي يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي العدد 54، السنة 2008. الصفحات 23-63. 

إعمار الكون
 في
ضوء نصوص الوحي




إعداد
أ.د. زياد خليل الدغامين
أستاذ التفسير بكلية الدراسات الفقهية والقانونية
جامعة آل البيت
1429هـ - 2008م







إعمار الكون في ضوء نصوص الوحي

مقدّمة:
يعدّ إعمار الكون من المهام الأساسية للإنسان الخليفة في الأرض، ولضرورته القصوى للحياة الإنسانية كان الإعمار مظهرا من مظاهر تحقيق العبودية لله تعالى. واتسع مفهوم العبادة لا ليقتصر على أداء شعائر تعبدية معينة، بل تجاوز ذلك إلى كلّ فعل مادي أو معنوي من شأنه أن ينهض بالإنسانية، ويبعثها على تحقيق الرقيّ والنهضة في المجالات كلّها. وهذا هو المعنى الأنسب الملائم لطبيعة الإنسان ولما أودع الله تعالى فيه من أسرار، من أهمّها حبّ البحث والتطلّع إلى المعرفة، والرغبة بمعرفة التفسير الصحيح لحكمة الخلق وسرّ الوجود، ووظيفة الإنسان فيه. وقد شهدت نصوص كثيرة من القرآن والسنّة بهذه المهمّة.
ولم تكن الأمة المسلمة على امتداد عصورها مقصّرة في عملية الإعمار للكون والحياة والإنسان، فقد استطاعت تحقيق إنجازات هائلة مادية ومعرفية شهدت بها أمم الأرض. لكنها اليوم - حين غلب على عقول أبنائها حبّ التقليد والتبعية للآخر- قد استسلمت وسلّمت راية الإعمار إلى غيرها، فأصبحت عالة عليه حتى في لقمة عيشها، وفي طعامها وشرابها ولباسها وكسائها ومواصلاتها، بل في حياتها كلّها. لقد تعطّلت طاقات كثيرة، وتعثّرت جهود كبيرة في عملية الإعمار، ووصل الحدّ إلى أن تعتمد على غيرها حتى في الدفاع عن نفسها، واستطاع الآخر أن يبثّ روح الخلاف والفرقة بين أبنائها وأوطانها، ويهيمن على سياستها واقتصادها حتى أصبحت عاجزة عن اتخاذ أيّ قرار مصيري يؤثر في استقلالها ونهضتها وتقدّمها ورقيّها، فقلّت بل كادت أن تنعدم فاعليتها –اليوم- في عملية الإعمار، وتراجع إسهامها في بناء الحضارة، وصنع المنجزات إلى حدّ كبير!
على أنّ آيات كثيرة من كتاب الله تعالى – تلك التي تحدّد هذه المهمّة العظمى- قد فهمت على غير وجهها، أو لم تعط أولوية في البيان الكافي لإعمار الكون بوصفه مهمّة فردية وجماعية تصل إلى حدّ أن تكون فرض عين على كلّ مسلم. ولذلك كانت ظاهرة الكتابة في ذمّ الدنيا والعزوف عنها([1]) وعدم الاشتغال بها وإهمالها من الضرورات المهّمة لسلامة إيمان العبد، وكان لهذه الظاهرة آثارها السلبية على فريضة إعمار الكون. وظنّ كثير أنّ غاية الخلق انحصرت في العبادة؛ لقوله تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذاريات:56) مع أنّ الآية لم يقصد منها الاقتصار على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل عمران الكون بما ينجز مهامّ الإنسان على الأرض. لكن، لما تخلّى المسلمون عن عملية الإعمار، وحلّ غيرهم لينهض بهذه المهّمة فقدت الإنسانية شيئا عظيما، وأصبحت عملية الإعمار غاية في ذاتها، لا وسيلة وقربة وطاعة إلى الله تعالى ومعرفته، وشتان ما بين الغاية والوسيلة !
ولا يمكن أن تتمّ عملية الإعمار بنجاح إلا وفق نظرة كلية صحيحة للكون، فما هو الكون، وما غاية خلقه، وما علاقة الإنسان به؟  وكيف يمكن أن تتمّ عملية الإعمار؟ وما أهمّ مظاهرها؟ ولربما تعدّ الإجابة على هذه الأسئلة ومحاولة الكتابة في إعمار الكون في ضوء نصوص الوحي إسهاما في إعادة بناء الأمّة لنفسها، وترتيب أولوياتها، ووضعها أمام مسؤولياتها من ضرورة القيام بنفسها، واعتمادها على ذاتها في تحقيق ما تصبو إلى إنجازه من رقيّ ونهضة، استجابة لنداء الحقّ جلّ جلاله:" إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ "(الرعد:11) فالرقيّ والنهضة لا يمكن استيرادهما من الخارج، فضلا عن أنّ هذا الخارج ليس من مصلحته أن ترقى الأمّة المسلمة وتنهض، بل عليها أن تبقى سوقا استهلاكية له في كلّ شيء، وعالة عليه في كلّ أمر. وهو ما يؤذن بتبعية الأمة وعدم استقلالها في اتّخاذ ما يصلحها، واجتناب ما يفسدها.
وستقع هذه الدراسة في مبحثين اثنين وخاتمة:
المبحث الأول : مفهوم إعمار الكون في ضوء نصوص الوحي
المبحث الثاني: مظاهر إعمار الكون في ضوء نصوص الوحي ووسائله
الخاتمة: وتشتمل على نتائج الدراسة
المبحث الأول
مفهوم إعمار الكون في ضوء نصوص الوحي
1.  مفهوم الإعمار
في معنى العمارة يذكر الأصفهاني أنّها:" نقيض الخراب: يقال: عَمَر أرضه: يعمُرها عِمارة. قال تعالى: "وعمارة المسجد الحرام"(التوبة:19). ويقال: عَمّرته فَعَمَر فهو معمور. قال:"وعمروها أكثر مما عمروها"(الروم:9)،"والبيت المعمور"(الطور:4) وأعمرته الأرض واستعمرته: إذا فوّضت إليه العمارة، قال:"واستعمركم فيها"(هود:61). والعَمر والعُمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء، فإذا قيل: طال عُمُره فمعناه: عمارة بدنه بروحه وإذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك؛ فإنّ البقاء ضد الفناء، ولفضل البقاء على العمر وصف الله به، وقلما وصف بالعُمُر. والتّعمير: إعطاء العُمُر بالفعل أو بالقول على سبيل الدعاء. قال تعالى: "أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه" (فاطر:37) "وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره"(فاطر"11) "وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر"(البقرة:96)، وقوله تعالى:"ومن نعمّره ننكسه في الخلق"(يس:68) قال تعالى: "فتطاول عليهم العمر"(القصص:45) "ولبثت فينا من عمرك سنين"(الشعراء:18). والعُمُر والعَمر واحد لكن خص القسم بالعَمر دون العُمر  نحو:"لعمرك إنهم لفي سكرتهم"(الحجر:72) وعمّرَك الله، أي: سألت الله عُمرك، وخصّ ههنا لفظ عمر لما قصد به قصد القسم. والاعتمار والعمرة: الزيارة التي فيها عمارة الودّ، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص. وقوله:" إنّما يعمر مساجد الله"(التوبة:18) إمّا من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمّرت المكان كذا أي: أقمت به".([2])
وبالنظر في تلك المعاني اللغوية يمكن استخلاص الملاحظات الآتية لمعنى الإعمار:
- أنّه نقيض الخراب، فالمخرّب آثم، والمعمّر مأجور على تعميره، فهو من مظاهر العبادة لله تعالى.
-  أنّه يقع ماديا كحراثة الأرض، ومعنويا كأداء العمرة، وعمارة المساجد بالذكر والتسبيح.
- أنّ من معانيه الإقامة في المكان.
- أنّه وظيفة من بدهيات وظائف الإنسان وأساسياتها، فهو كالروح من الجسد، بل إنّ فعل الروح في الجسد يمثل مظهرا من مظاهر التعمير له. نقل القرطبي عن زيد بن أسلم قوله في معنى قوله:"واستعمركم فيها"(هود:61) أيّ: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار.([3]) وهو الذي قدّمه الزمخشري على غيره في كشافه، فقال :" أمركم بالعمارة"([4]) على معنى أنّ السين للطلب، فالأمر هنا للوجوب ويؤكده أنّه ورد لتحقيق ضرورات الحياة الإنسانية. وبما أنّ الإعمار واجب، فهو مسؤولية يسأل عنه الإنسان يوم القيامة.
- أنّ التعمير المادي يسير في آن معا مع التعمير المعنوي، لا ينقطع أحدهما عن الآخر، فكما ذكر البيت المعمور وهو بيت الله الحرام في مكة، ذكر "واستعمركم فيها"، فكأنّ حياة الإنسان لا تستقيم بنوع واحد من العمارة.
أقول : إذا كان بثّ الحياة في ميادين الكون بإصلاح شأنه، وتسخير ما فيه لما يخدم الإنسان ويحقّق رفاهيته وسعادته هو المقصود بإعمار الكون، ممّا يقتضي وصول الإنسان إلى ذروة الكمال المادي والمعنوي عن طريق تذليل ما في الكون واستثمار ما فيه، واستشعار عظمة خالقه، فمن المفترض أن يكون ذلك وفق منهج مستقيم، ورؤية واضحة. كما عبّر عن ذلك الأصفهاني في معنى قوله تعالى:" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا "(المائدة: 48) فذكر أنّ الآية تشير إلى أمرين:
أحدهما: ما سخّر الله تعالى عليه كلّ إنسان من طريق يتحرّاه ممّا يعود إلى مصالح العباد وعمارة البلاد، وذلك المشار إليه بقوله:" وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا".(الزخرف:32)
والثاني: ما قيّض له من الدّين وأمره به ليتحرّاه اختيارا مما تختلف فيه الشرائع، فكأنّ الإعمار لا يتم إلا وفق شريعة ومنهاج".([5])
وهو ما تأكد عند ابن عاشور عند تفسير قوله تعالى:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فقال:" فالمعنى أنّه المستغني غنى مطلقا فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له، ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة ([6])؛ لأنّ الشريعة هي" المنهج الوحيد الذي تستقيم في ظلّه الحياة، وتستقيم في ظلّه النفوس، وتجد الفطرة في ظلّه السلام مع ذاتها، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه.([7]) وهذا مما تقتضية حكمة خلق الإنسان وتكليفه، فالإنسان خلق لغايات وهو مكلّف بتحقيقها حسب ما بيّن له الخالق جلّ جلاله.
2. ضرورة الإعمار
يعدّ إعمار الكون ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، فلا بدّ للإنسان من أن يكتشف ويخترع من أجل تذليل العقبات التي تعترض طريقه، وتحول بينه وبين تحقيق ما يطمح إليه من سبل العيش الآمن والحياة الكريمة. قال ابن عاشور عند تفسير قوله تعالى:" وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل:88) قال:" وهذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجّه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة، وبديع الصنعة. وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي".([8])
وذكر الآلوسي أنّ معنى قوله سبحانه:"واستعمركم فِيهَا"، أي: جعلكم عمّارها وسكّانها فالاستفعال بمعنى الإفعال، يقال: أعمرته الأرض واستعمرته إذا جعلته عامرها وفوّضت إليه عمارتها. وذكر معنى آخر، وهو أنّه أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن، وحفر أنهار، وغرس أشجار، وغير ذلك، فالسين للطلب. واستدل بالآية على أنّ عمارة الأرض واجبة لهذا الطلب".([9]) فلا تستقيم حياة الإنسان بدونها. وتقسيم العلماء الإعمار إلى واجب ومندوب ومكروه ... دليل على أنّ عملية الإعمار البصير، أو البناء المحكم لا يمكن أن يتمّ إلا بضوابط الشرع وهداياته.
"فعمارة الأرض بمعناها الشامل تشمل إقامة مجتمع إنساني سليم، وإشادة حضارة إنسانية شاملة، ليكون الإنسان بذلك مظهراً لعدالة الله تعالى وحكمه في الأرض... إنّ مهمته تحقيق جامعة إنسانية فعّالة في سبيل النهوض بعمارة هذا الكوكب الأرضي، العمارة الكلية الشاملة لكل ما تتسع له كلمة "العمارة" من المعاني المادية والعلمية والاقتصادية."([10]) فهي غاية وجود الإنسان وهدفه الأعظم، ولا سبيل له إلى حياة كريمة له إلا بالقيام بعملية الإعمار في مختلف الصعد، لتظهر كمالات الإنسان واستعداداته اللامحدودة في الحياة.
ولضرورة العمارة سبب آخر، وهو طبيعة الطاقة الكامنة في الإنسان، وما أودع فيه البارئ من قوى، إذا ما تيسر لها  أن تسير وفق هداية الوحي، فإنّها ستصنع الخارقات، وتسطر الآيات البيّنات."فلا جدال في أنّ "النفس البشرية" طاقة عظمى من طاقات البناء والإعمار، ومصدر خصب من مصادر الحقّ والعدل والخير والجمال في هذا العالم إذا ما زكت وصفت وغدت موصولة الأسباب بفاطرها وموجدها؛ لأنّ صلتها بالله، واستمساكها بأسباب أنواره يجعلها موضع نظره، ومَنْ كَان موضع نظر الله تعالى أفيضَ عليه من صفات جماله  وكماله ما يستطيع بها أن يمحق ظلام الدنيا وشرورها.([11])، فالإعمار ضروري لإظهار هذه القوى الإنسانية الراشدة، والطاقة التعميرية الهائلة.
3. مفهوم الكون وعلاقة الإنسان به
يذكر الجرجاني أنّ الكون هو:"عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم"([12]) وبعبارة أخرى: الكون هو كلّ وجود ما عدا وجود الله سبحانه ممّا خلقه وصيّره للإنسان مسخّرا.
من المفيد أن نبيّن أنّ الإنسان قد احتل المرتبة الأولى في صدر الكون، فبعد أن كان يطوف متعبّدا حول كثير من الموجودات، فعبد الشمس والقمر، والشجر والحجر...، أصبحت كلّ المخلوقات تطوف لأجله؛ فهو المخلوق الخليفة في الأرض، المكلّف بالنظر في أحوالها، وتسخير ما فيها من موارد، والاستدلال بها على خالقها ...
      إنّ الكون وموجوداته ليست مستقلّة عن الإنسان ووجوده، بل إنّ الكون لم يوجد إلا من أجل الإنسان، فهو قد أعدّ لاستقباله، واستمرار وجوده -تبعاً لذلك- رهين الوجود الإنساني، وبينهما وحدة في التكوين؛ فالإنسان ليس إلا متكونا من نفس العناصر التي تتكون منها الموجودات الجامدة والحسية. وبينهما كذلك وحدة الكيفية والتركيب؛ إذ ركبت الموجودات كلّها بكيفية التزواج، كما يثبته قوله تعالى:" وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (الذاريات:49). وقد جاء التعبير القرآني رائعا في دلالته على الوحدة الجامعة بين الإنسان والنبات والجماد في الترابط التكويني بينها، إذ يقول تعالى:" وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا" (نوح:17). كذلك بينهما وحدة في النظام؛ فوحدة السببية تبدو في أنّ جميع الموجودات بما فيها الإنسان خاضعة في نشوئها واستحالتها لعلل وأسباب. ووحدة الحركة التي تبدو فيما عليه الكائنات من حركة تغيّر مستمر، بحيث لا يثبت منها شيء على حال واحدة. لكن هذا الجزء المشترك في الطبيعة المادية لا يقتضي التساوي بينهما، ففي التفاضل القيمي يبقى الإنسان متميزا على الكون تميّز استعلاء ورفعة. إنّ حديث القرآن عن خلق الإنسان يظهر أنّّه قطب الرحى في تراجع الموجودات إليه تراجع تقدير وحكمة([13]) ، "وإضافة إلى هذه القطبية التكوينية تتحقّق في الإنسان –كمظهر استعلاء- قطبية معرفية تتمثل فيما خصّ به من استيعاب معرفي للكائنات، فهو مهيأ بوسائله الإدراكية لأن ينقل العالم الخارجي في صورته الكمية والكيفية إلى عالمه الداخلي، فيصبح هذا الكائن الصغير يحمل في ذاته ذلك العالم الكبير، وتحصل له من ذلك خاصّة القوامة والإشراف على سائر الكائنات"([14])  وبما أنّ الإنسان هو محور الكائنات أو الكائن القطب، فإنّ له وظائف ومهمّات يتحتّم عليه القيام بها.
    فعلاقة الإنسان –إذن- انبنت على توافق وانسجام، بين الإنسان والكون، فلا يحقّ للإنسان الإساءة إلى الكون، وتدميره. إنّ الجانب الأقسى الذي شرعه الإسلام وهو العقوبات والحدود أو حتى الجهاد في سبيل الله ما شرعه إلا للمحافظة على عمارة الأرض واستقرارها، وبتر يد العابثين بها وبأمن الناس فيها من المفسدين، قال أبو حيان:"الفساد ضدّ الصلاح، وهو معاندة الله في قوله:" واستعمركم فيها"(هود:61) والفساد يكون بأنواع من الجور والقتل والنهب والسبي، ويكون بالكفر"([15])، فكلّ أولئك وسائل للمحافظة على عمارة الكون.
وإذا كان هذا الإنسان هو النواة في عملية الإعمار، فلا شكّ أنّ الإعتداء عليه بالقتل إفساد لها، ولضمان هذا النواة سليمة آمنة شرع الوحي إزهاق روح كلّ من يحاول إفساد هذه النواة،  كما شهد بذلك قوله تعالى:"وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة:179)، فمن دواعي تقوى الله إقامة حدود ما شرع وأنزل؛ لأنّ ذلك يبعث على الحياة، لا على الهلاك. لقد طالب بمجاهدة قوى الظلم والظلام في الأرض، فالكفرة قوة ظلامية تدمّر الكون وتفسد حياة الإنسان فيه:"فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا"(الفرقان:52) وإنّ القرآن لم يأمر بمجاهدة الكافرين والمنافقين إلا بعد أن بيّن من سلوكهم ومعتقداتهم ما كان سببا لتدمير حياة الإنسان على الأرض، وهدم مهمّة إعمار الأرض على أسس صحيحة. إنّ هذه الطاقة الهائلة في النفس البشرية تتحوّل إلى " قوة تدميرية عمياء، وطاقة هدم مرعبة، إذا ما نجمت فيها جرثومة التمرّد والنزق والجموح، وعصفت بها رياح الهوى الهوج المحرّكة لنيران رغباتها المجنونة، وشهواتها العارمة، فتحرق هذه النار كلّ سبب يصلها بالله تعالى، فلا تلبث - بعد ذلك - أن تتنكر لخالقها وبارئها، وتنزع الى عصيانه، وترغب في الانفلات من مسؤوليات الإيمان، وتكاليف الإسلام".([16]) وهو ما بدا واضحا في ضوء نصوص الوحي في سلوك المنافقين والكافرين، فتدمير الإنسان فكرا وسلوكا وقيما وعقائد هو تدمير حقيقي للكون، وإعمار الإنسان بالإيمان أمان لعملية الإعمار وسلام لها.  
4. مخاطر الاقتصار على المفهوم المادي لإعمار الكون
كان القاسم المشترك بين ثقافات أهل الأرض ومذاهبها في إعمار الكون إعلاء شأن المادة وقيمها، وما يتصل بها على حساب حظّ الروح وقيمها وأبعادها؛ ولذلك تقلّص بناء دور العبادة مثلا، وكثر بناء الصور والتماثيل، تماثيل الآلهة والقادة والزعماء، واتّجه البناء الحضاري وجهة ماديّة، ففي حضارة عاد وثمود نجد في نصوص الوحي ما يؤكد هذه الحقيقة، قال تعالى :" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ" (الفجر:6-10). لقد تضخّم بناء القوّة المادية عند تلك الأقوام حتى أصبحت معياراً، كما أخبر سبحانه عن قوم عاد بقوله:" وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً" (فصلت:15). وعن فرعون وما أنجز من مظاهر المادّة، يقول سبحانه:" وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ" (الزخرف:51).
ويحدّث القرآن الكريم عن ذلك الإعمار المادّي وما آل إليه من مصير، يقول سبحانه:" فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ"(الحج:45) فالعروش والآبار والقصور كلّها منجزات ماديّة هلكت بفساد المنهج الذي سلكته تلك الأقوام في عمارة الأرض. وهذا يعني أنّ تلك العمارة المادية وحدها لا تكفي ولا تفي بمهامّ خلافة الإنسان في الأرض، فالعمارة لا تنفك عن المنهج الذي تستند إليه عملية الإعمار، والإنتاج المادّي وحده لا يمثل إعمار حقيقيا للأرض بسبب عدم توافر ضمانات بقاء هذه الإعمار على حاله، فقد زالت أمم وأقوام لم تترك سوى بصمات وآثار تدلّ عليهم، كفراعنة مصر، وأباطرة الرومان، وأكاسرة الفرس، وغيرهم. والسبب الرئيس في زوال تلك الممالك والأمم والأقوام، هو مخالفتهم منهج الاعتدال والاستقامة وسنن الله في الأرض في عملية البناء، وتبديل العلاقة مع الكون، من حيث إنّها أصبحت علاقة عداء، لا وئام ولا ارتفاق. وهو حال البناء المادي اليوم، الذي اتّجه إلى بناء الأبراج العالية، وناطحات السحاب، والبواخر العملاقة، والمدن الضخمة تحت الأرض،...، وغفلت حضارة اليوم المادية عن بناء الإنسان بناء صحيحا، فساد الظلم وانتفى العدل، وتحقّق الجور وعمّ الطغيان، وهذا مؤذن بخراب العمران وفساده. قال ابن خلدون:" واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلمّا كان الظلم -كما رأيت- مؤذناً بانقطاع النوع لما أدّى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمّاً. وأدلته من القرآن والسنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر".([17])
إنّ سبب هلاك تلك الحضارات اتّخاذها منهجا ماديا قاصرا غير راشد في التعامل مع الكون، فغفلت عن أنّ للكون نظاما محكوما بطبيعته بسنن إلهية ثابتة لا تتبدّل ولا تتغيّر، ينعكس استقرارها على الإنسان نفسه. وغفلت هذه الثقافات عن أنّ لهذا الكون خالقا متصفا بالوحدانية، وغفلت عن أنّ الحياة آية توحيد ساطعة، تسطع على وجه الكائنات."([18]) لقد ضرب القرآن الكثير من الأمثلة لبيان قصور الإعمار المادي غير المتصف بقيم الخير والفضيلة، كقصة صاحب الجنتين، وقصة أصحاب الجنة، وغيرها.
إنّ الثقافات الماديّة التي عمّرت الكون بعيداً عن رسالته وغايته لم تستطع أن توظّف أو تستثمر غايات الوجود في حياتها، فانعكس إعمارها للكون سلباً على حياة الإنسان. وهو ما نجده اليوم في الثقافة الغربية عموما، إنّه إعمار ماديّ لا عليه إن أزهق حياة ألوف من البشر بالتلوث البيئي، أو بالسلاح الكيماوي أو النووي، أو بالاعتداء على الطبيعة والتفنن في إيذائها، فغايته إشباع نهم الإنسان في بعده الماديّ فحسب. إنّ هذا الإعمار قد تناسب عكسياً مع قيم الإنسان وأبعاده الروحية؛ لذلك لن تفلح هذه الثقافات في تحقيق الكمال المعنوي للإنسان؛ لأنّ " الفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كلّ شيء وكلّ حيّ، فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنّما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزّق، ويحتار ويقلق. ويحيا كما تحيا البشرية الضالّة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب، على الرغم من جميع الانتصارات العلمية، وجميع التسهيلات الحضارية المادية !([19]) وهذا ما يستدعي إعادة النظر في إعمار الكون في ضوء الشرعة والمنهاج. وفي ضوء موقع الإنسان الحقيقي في هذا الوجود، وفي ضوء العلاقة التي تربطه بالكون.
إنّ إقصاء الإيمان بالله تعالى وما يستتبعه من قيم ومعان سيؤدي إلى إخفاق كبير في عملية الإعمار، يؤكد ابن عاشور هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى:"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"(البقرة:126) فيقول:" لقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة؛ فإن أمن البلاد والسبُل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة، ويقتضي : العدل، والعزّة، والرخاء، إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير، والإقبالَ على ما ينفع، والثروةَ، فلا يختلّ الأمن إلا إذا اختلّت الثلاثة الأول وإذا اختلّ اختلّت الثلاثة الأخيرة"([20]) فالأمن مرتبط بالإيمان، فاذا اختلّ الإيمان اختلّ الأمن، وإذا اختلّ الأمن اختلّت عملية إعمار الكون.
إنّ القرآن الكريم لم يتحدّث طويلا عن كيفية الإعمار، ولم يبيّن للإنسان ما يعمّره، وما لا يعمّره، وإنّ القرآن لا يتدخل في كيفية حصول الإنسان على الطاقة، ومن أيّ مصدر ولّدها ؟ ولا يذكر شيئا عن كيفية تفاعل العناصر أو عدم تفاعلها، ولكنه يتدخل في بناء نفس الإنسان ومعتقده وتصوّره وفكره، ويهذّب سلوكه ويقوّم أعماله؛ لينعكس ذلك كلّه على إعماره للكون، قال الشنقيطي: "إنّ العمر وزمن الحياة حجّة على الإنسان كالرسالة والنذارة سواء، وذكر قوله تعالى:" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير" (فاطر:37)، فجعل في الآية التعمير، وهو إشغال العمر موجباً للتذكر والتأمل، ومهلة للعمل"([21])
كذلك، فإنّ القرآن الكريم يوجّه الإنسان نحو العناية بإصلاح علاقاته مع خالقه، ومع نفسه، ومع الناس من حوله، فإصلاح هذه العلاقات تؤدّي إلى التعاون المثمر بين الإنسان والإنسان؛ لأنّ عملية الإعمار لا تقوم على جهود فردية، بل لا بدّ فيها من التعاون الإيجابي، ومن شأن هذا أن يجعل من إعمار الكون نتاجا مثمرا. وقد أكد ابن خلدون هذه الحقيقة في فاتحة مقدمته، فبيّن أنّ حقيقة التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال"([22]) فإذا لم تتم عملية إعمار الإنسان من الداخل، ولم يهيمن الإيمان بالله على نفسه ومشاعره، وإذا لم يلتزم بالشريعة الحقّ، والمنهاج الحقّ، فيصعب تحقّق العمران للأرض والحياة، فهل يسعد الإنسان اليوم حين يعلم أنّ ملايين البشر مهدّدون بالموت ليس إلا بسبب الجوع ! هذا فضلا عن أولئك الذين يعانون الفقر، وهو ما يزيد عن نصف سكان العالم ! فما قيمة كلّ هذه المنجزات المادية الضخمة من جسور وأنفاق وناطحات سحاب، والوصول إلى الكواكب الأخرى، والإنسان يموت يتلوّى جوعا ؟
لذلك، فإنّ أوّل ما يتميّز به الإعمار الإسلامي أنّّه لا يقف عند حدود التعامل الماديّ الذي ينظر إلى الكون والإنسان نظرة ماديّة خالصة، ويقصر وجه الانتفاع به على المادّة أيضا، بل يتعامل معه بكل الأبعاد التي تحقّق الكمال الإنساني من جميع جوانبه المادية والروحية والعقلية. فهناك نوع من التناسق والانسجام بين طبيعة الإنسان وانعكاس هذه الطبيعة على عمارة الكون. ومن المفيد أن نبيّن أنّ الوحي وجّه إلى عمارة الكون، وجعل هناك أولويات في البناء العمراني، فكان أول بيت بني ووضع للنّاس هو بيت الله الحرام، وعلى روّاد بيوت الله تقوم دعائم الحضارة وركائز العمران، يقول سبحانه:" إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ"(آل عمران:96). إنّ لهذه البيوت الأثر الكبير في توجيه الحضارة والعمارة الوجهة الصحيحة، وهي صمام الأمان لوجودها وبقائها. وكان فضل بنائها عند الله عظيما، فـ"من بنى مسجدا لله تعالى بنى الله له بيتا في الجنّة."([23]) لهذا فإنّ غايات الإعمار الإسلامي للكون تتمثل في تحقيق المهامّ التي كلّف الإنسان بإنجازها.
    إنّ توجيه الوحي إلى إعمار الكون مبنيّ على قيم: الصداقة، والمحبّة، والمودّة، والإحسان، والرحمة، التي تربط الإنسان بالكون بعيدا عن مبدأ الصراع والتنافس والتحدّي وقهر الطبيعة كما في الثقافة الغربية.
    وتتجّه عملية الإعمار كذلك إلى إصلاح علاقات الإنسان مع نفسه، ومع الكون والناس من حوله، وقبل كلّ شيء مع خالق هذا الوجود ومدبّر أمره، وبدون هذا الإصلاح المعنوي للإنسان، فستكون مهمّة إعمار الكون مهمّة صعبة وعسيرة، لن تؤتي أكلها، وستكون ثمار مؤرقة للإنسان كما هو واقع اليوم !
ويمكن القول في ضوء ما سبق أنّ الإعمار هو كلّ عمل إنساني متصف بالصلاح والإصلاح ماديا كان أو معنويا، يهدف إلى تحقيق العبودية لله تعالى، والقيام بواجب الخلافة في الأرض. أي أنّ إعمار الكون يمثل عملية بناء محكمة للإنسان والحياة مهتدية بهدايات الوحي قرآنا وسنّة، وهادفة إلى معرفة الله ومرضاته، ومحقّقة لمهامّ الإنسان في هذا الوجود.










المبحث الثاني
مظاهر إعمار الكون في ضوء نصوص الوحي ووسائله
إنّ تحديد المهامّ الأساسية للإنسان كما تبيّنت في نصوص الوحي يكشف عن المظاهر الحقيقية في إعمار الكون، ويسهم في عملية بناء صحيح وآمن له. ويمكن أن تتلخص هذه المهامّ في الأمور الآتية:
- القيام بواجب الخلافة، كما أخبر سبحانه:" إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"(البقرة:30) وتعني:" تنفيذ مراد الله في الأرض، وإجراء أحكامه فيها. وهذا معناه أن يكون الإنسان سلطانا في الكون بغاية تطبيق المهمّة التي كلّفه بها ائتماراً بما أمر، وانتهاء عمّا نهى."([24]) ،" فالعقل المسلم مدعوّ من منطلق الخلافة إلى تسخير الكون والكائنات لما فيه النفع: نفعه ونفع الكون والكائنات من حوله، ومدعوّ إلى العمل والسير في دروب الكون ومناكبه، ومدعوّ إلى العلم بأسراره وتسخير هذا العلم لما فيه الخير. والعقل المسلم من منطلق الخلافة هو صاحب الشأن والكلمة في الكون، ومطالب بالسعي والإعمار. وبالعلم والإعمار والتسخير يحقّق الإنسان مهمّته في هذه الأرض، ويبلغ غايته."([25])
- عبادة الله تعالى، كما في قوله:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذاريات:56). وهو ما أوجبه الله تعالى على الإنسان من سنن التشريع، وآيات التكليف، لأداء حقوق الله تعالى، وحقوق النفس، وحقوق الآخرين، وحقوق كلّ ما حولنا. وكأنّ إعمار الكون من مظاهر عبادة الله تعالى، فلا تتنافى العبادة مع إعمار الكون؛ لأنّه أحد مظاهرها. بل العبادة المقصودة بحكم النص القرآنى أن الإنسان العابد لابد أن يكون عاملا منتجا، فالعمل الجاد هو السبيل لإسعاد الفرد والجماعة، فالعمل مظهر عبادة.
- عمارة الأرض كما في قوله تعالى:"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: 61). "والاستعمار: الإعمار، أي: جعلكم عامرينها، ومعنى الإعمار أنّهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع؛ لأنّ ذلك يعدّ تعميرا للأرض، حتى سمّي الحرث عمارة؛ لأنّ المقصود منه عَمر الأرض."([26])
- أداء الأمانة، كما في قوله تعالى:" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ" (الأحزاب: 72). إنّها أمانة التكليف كما ذكر الرازي.([27]) وما عهد الله تعالى إلى الإنسان إنجازه والالتزام به في سياق التعامل مع الله تعالى، أو مع الكون والحياة والإنسان. ولا شكّ أنّ في هذا التكليف شرفا عظيما، وتكريما كبيراً للإنسان.
- الشهادة على الأمم، كما في قوله تعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة: 143). والشهادة تقتضي مراقبة الاعتدال في سير حياة الأمم وتقويم الاعوجاج الناشئ عن التطرف بالميل إلى الجسد على حساب الروح، أو قمع الجسد لصالح السموّ الروحي. وكذلك تعني ضبط مبدأ الوسطية والتوازن وإقامتهما في الحياة كلها.([28])
فمن مفهوم الخلافة والعبادة والعمارة والأمانة والشهادة تتشكل مهامّ الإنسان وتتحدّد وظائفه وغاياته في الحياة وتنعكس إيجابيا على عمارة الكون التي تمثل إحدى الفرائض الكبرى للإنسان. ولذلك رأى العلماء أنّ المسلم مكلّف بعمارة الأرض، وليس له أن يترهبن ليكرّس نشاطه في العبادة، قال الرازي: إنّ الرهبانية التامّة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل. وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنّه يفيد عمارة الدنيا والآخرة، فكانت هذه الحالة أكمل([29]).
إن كلّ هذه المهام تتضافر جميعا لإعمار الكون، فحين تكون الزكاة المفروضة ركنا من أركان الإسلام، وحين يحثّ القرآن على الصدقات، فإنّ ذلك يعبّر عن مظهر لإعمار الكون، كيف يدفع المؤمن الزكاة دون وجود مال نام متحرك يفعل فعله في واقع الحياة من صناعة وزراعة وتجارة؟ وحين يخبر القرآن عن دفع الزكاة من كلّ ما تنبت الأرض، كما أخبر سبحانه: " كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"(الأنعام:141) فإنّه يتحدّث عن إعمار الأرض بالزراعة،..، وهي عملية إعمار وتنمية راشدة، وإن لم يذكرها صراحة حتى لا يتوهمن أحد أنّ عملية الإعمار مقصودة لذاتها، كما هو حال الحضارات المادية.
إنّ توجيه نصوص الوحي بخصوص إعمار الكون يظهر فيما يتخذه من وسائل فاعلة شاملة في عملية الإعمار التي تتمثل في المظاهر الآتية :
أولاً : العلم
وهو المظهر الأول والقاعدة الأساس في إعمار الكون، ولا يمكن إخفاء ما له من أثر في إحداث الرقيّ والتطوّر، وتحقيق إعمار الكون، لكن بالنظر إلى تعريفات علمائنا نجدها تفتقر إلى توظيف حقيقي له في أرض الواقع، فقد ذكر له تعريفات كثيرة([30]) فقد عرّفه المحاسبي بانكشاف المعلوم على ما هو عليه([31]) وهو عند الغزالي معرفة الشيء على ما هو به ([32]) وعرّفه ابن حزم بقوله:"هو تيقن الشيء على ما هو عليه"([33]). وكلّ هذه التعريفات تفترض في العلم فهم الوجود كما هو، ولا تتحدّث عن معرفة تحصيلية متصلة بواقع الحياة الإنسانية من حيث ضرورة الإعمار وتوظيف العلم لهذا الغرض. فقد شغل علماؤنا ببيان أشرف العلوم، "وهو العلم بالله وصفاته وأفعاله ففيه كمال الإنسان، وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال"([34]) وقد لا يكون ذلك مستغربا فالضرورة تقتضي الوقوف على هذه المعرفة وقوفا تاما، لكن لا ينبغي التوقف عندها. "إنّ مضامين مفهوم العلم – التحديد المعياري الوظيفي للعلم- في القرآن الكريم أو بقية المصادر الإسلامية عموما، أو عند المفكرين والعلماء في التاريخ المعاصر يمكن حصرها في ثلاث وظائف، هي: قدرة العلم على تحديد الحقيقة. وقدرة العلم على حلّ المشكلات. وفعالية العلم في تحقيق الجديد، وتغيير الأوضاع والانتقال بها نحو الأفضل والأقوى"([35]) هذه هي الوظائف الحقيقية للعلم، وقد أثار القرآن الكريم بجلاء ووضوح ضرورة إعمار الكون حين حدثنا عن الكمالات المادية في قصصه مثل قصة ذي القرنين، وإمكانية التنقل من أقصى الأرض إلى أقصاها بجيوش كبيرة، ومعرفة خصائص العناصر وصهرها وتركيبها. وسمّى سورة من سوره "سورة الحديد" لما لتشكيل هذا العنصر من أهمية في النهضة والعمران. كذلك حين حدثنا عن الفلك والجواري في البحر، وقيمة ذلك في عملية الإعمار. ولم يقف عند مجال معين، فنظرة سريعة إلى أسماء سورة القرآن توحي إلى ما ينبغي الوقوف عليه من حقائق العلم واستثماره فيما ينفع الإنسانية، فالأنعام والنحل، وفاطر، والنجم، والقمر، والقلم، والبروج، والطارق، والشمس ..  تشير إلى آفاق واسعة تقتضي اكتشافها ومعرفتها. لقد حدثنا القرآن عن ظاهرة الرعد والبرق والسراب والمطر والبرد، وحدثنا عن القطع المتجاورات من الأرض، وحدثنا في البحر عن ظلمات بعضها فوق بعض ... كلّ ذلك للإسهام في رسم حدود قصوى لما يمكن أن يفهمه الإنسان ويستثمره في حياته وفاء بحقّ مهمة الإعمار. وهو شأن السنة النبوية الشريفة. على أنّ القراءة الصحيحة الواعية للقرآن الكريم لا تتمّ إلا بقراءة كتاب الكون إلى جواره، فلا يعقل ولا يتصوّر أن تقرأ الأمّة قوله تعالى:" وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ" (الرحمن:24) ثم تقف عاجزة غير قادرة على بناء السفن وصناعتها، ولا يصح لها وهي تقرأ قوله تعالى:" أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور:40) أن تغفل عن اكتشاف خصائص البحر وما أودع فيه الخالق من أسرار. إنّ العلم بكل ما ذكره القرآن الكريم من ظواهر طبيعية أو جغرافية أو إنسانية يعدّ من ضرورات القراءة المنهجية لكتاب الوحي.
إنّ هذه الظواهر والمفاهيم العلمية في القرآن الكريم تعدّ المفاتيح الرئيسة في عملية البناء والإعمار لكل ما في الوجود، ويفرض هذا الواقع ضرورة إنشاء مراكز ومعاهد فاعلة للبحث العلمي تنفق عليه بسخاء، وترى فيه فريضة شرعية، يثاب فاعلها ويأثم تاركها. لا أن يكون وجودها مجرد مظهر تزييني وتجميلي لمؤسسات التعليم !
ثانيا : التفكر
التفكر ليس عملية ذهنية صامتة، بل عملية تجريبية ناطقة، واعية، مكتشفة، مسخّرة للنتائج التي تصل إليها في عملية الإعمار. إنّ الكون ميدان رحب للتفكّر في آلاء الله ونعمه، والتدبّر فيما أودع فيه من آيات بيّنات، والوحي قد جعل من الكون مادّة مهمّة للوقوف على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى، فالكون مسجد عظيم تسبّح فيه كلّ المخلوقات بحمد الله تعالى، ويشارك الإنسان هذه المخلوقات التسبيح والتحميد، ويزيد عليها بالتفكر الذي هو عبادة حقيقية لله سبحانه، فتفكّره في خلق السموات والأرض إحياء للكون وعمارة له بالتسبيح والذكر الخالص، فهو ليس جامدا ولا صامتا، ولا أصمّ أبكما، ولكنّه ناطق بالحجّة والبرهان على وحدانية الله جلّ جلاله. وبالتفكّر فيما بثّ الله فيه من آيات تكتمل عمارته المعنوية، وتقوى عرى الصداقة والمودّة بينه وبين الإنسان، فيتأثر به الإنسان ويتعلّم منه كثيرا من الدّروس والعبر؛ فإذا كان الكون يسير على وفق نظام لا يحيد عنه بانتظام حركته وظواهره الكونية، فإنّ هذا الانتظام ينبغي أن ينعكس على الإنسان في حياته فيضبط حركته وسلوكه. وإذا كان ما في الكون يسير في حركة دؤوبة نشطة، فينبغي لهذا النشاط أن ينعكس على سلوك الإنسان؛ ليقوم على عمارته دأبا.
إنّ التفكر -بكل أبعاده- مطلب قرآني يتيح للإنسان التعرّف على أسرار النظام الكوني في عالم الفضاء والأرض والجبال والبحار والإنسان، هذا التعرّف يهدف إلى توظيف حقائقه وأسراره في خدمة الإنسان ونفع الإنسانية، وليعرف الله الخالق الجليل حقّ المعرفة، فالكون من أهمّ المعرفين بوحدانية الخالق سبحانه.
فالتفكّر في قوله تعالى:" اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"(الرعد: 2-4).
هذا التفكر يفتح الميدان واسعا أمام الإنسان؛ ليطوّر مواهبه العلمية والعملية. وللتدليل على ذلك نمثّل بالآتي، فنقول: ماذا يمكن أن يوحي تفكر الإنسان في سلوك النحل مثلا؟ وماذا يمكن أن يتعلم منه؟ يقول تعالى:" وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل: 68-69).
وماذا يمكن أن يتعلّم من النظام الاجتماعي الذي يحكم حياة النحل؟ ولماذا كان القوم المتفكرون هم أصحاب الاختصاص والنظر في هذه الآية دون غيرهم؟ وأين سيودّي بهم تفكيرهم في هذه الآية وهذا النظام؟ إنّّه تصرّف العقل الفطري الذي وهبه الله تعالى للنحل ليكون آية بيّنة على قدرته ووحدانيته، فهذا النحل يحكمه نظام اجتماعي دقيق، قائم على التعاون الوثيق بين أفراده، فكل نحلة تؤدّي عملا ووظيفة،"فتبتعد عن خليتها آلاف الأمتار، ثمّ ترجع إليها ثانية دون أن تخطئها وتدخل خلية أخرى غير خليتها، علما بأنّ الخلايا في المناحل تكون مرصوصة بعضها إلى جوار بعض، وذلك لأنّ الله سبحانه سهل أمامها طرقها وذلّلها لها بنوع من الإحساس الكهربي المغناطيسي في جسمها، وبعد أن يحمل النحل رحيق الأزهار في جوفه يتحول هذا الجوف إلى مصنع يجعل من هذا الرحيق شراباً فيه شفاء للنّاس، وتلفظ النحلة عسلها عن طريق فمها... وفي قوله تعالى: ?فيه شفاء للنّاس? حقيقة علمية، وهي أنّّه الغذاء الوحيد المعقم طبيّا، وأنّه قاتل للميكروبات، ومبيد للجراثيم. فهل للإنسان أن يتأمّل ويفكر في قدرة الله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض."([36])
إنّ تفكّر الإنسان فيها يتيح له التسبيح بحمد الله الخالق، ويتيح له دراسة أثره في علم الاقتصاد وتطوير أداء النحل للاستفادة من شرابه وتقوية جهاز المناعة لدى الإنسان، ويتيح له دراسة أثره في علم الطب وفوائده لكثير من الأمراض التي يعاني منها الإنسان. ويتيح له دراسة علم النبات لمعرفة انعكاسه على لون العسل والمقارنة بينها، ويتيح له دراسة النظام الاجتماعي في مملكة النحل. وبذلك يشرك الإنسان علم الطب وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النبات لدراسة هذه الآية، وإثارة هذه العلوم وتطويرها فيه إعمار للكون على منهاج الحقّ توصلا إلى الحقيقة المطلقة المتمثلة في وحدانية الله سبحانه وتعالى.
"إنّ الرؤية الإسلامية القويمة التي يتكامل فيها الوحي والعقل والكون، ويصرف فيها العقل المسلم إلى النظر والتدبّر والعمل في عالم الشهادة وشؤونه كما يوجّهه الوحي، هي الرؤية التي مكنت للسلف الأول ناصية الإبداع، وفتحت أمام العقل المسلم أبواب التجريب والنظر والتنقيب في سنن الحياة والكائنات، وفتحت للإنسانية آفاقا جديدة في مجال الحضارة، كانت هي الأساس الذي أقامت الحضارة الحديثة عليه منهجها العلمي التجريبي، وإنجازاتها المادية التجريبية التي لم تعرف لها الإنسانية من قبل سبيلا ولا مثيلا."([37]) وبهذا يطوّر التفكير إبداع الإنسان فيبعثه على العلم والتعلّم ليوظف ذلك كلّه في إعمار الكون ماديا ومعنويا.
هذا التوجيه "يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته والانطباع بإشاراته وإيحاءاته. ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب معرفة للإنسان المؤمن الموصول بالله، وبما تبدعه يد الله تعالى.([38]) فالتفكر الواعي المهتدي بنصوص الكتاب والسنة هو الوقود الرئيس لعملية إعمار الكون، وهو مظهر يتصل بالمظهر الأول ويرتبط به ارتباطا وثيقا، والعلم والتفكر يجتمعان ليمثلا عملية التخطيط المحكم في إعمار الكون. 
ثالثاً: اكتشاف السنن الإلهية
السنن الإلهية هي قوانين الله الفاعلة في حياة الكون والإنسان، فهما نوعان من السنن: سنن كونية تسير وفق نظام محكم لا يتخلّف، ولا يملك الإنسان شيئا إزاء تغييرها، وليس له إلا أن يكيّف حياته ويضبط حركته معها، ويستفيد منها بكل ما لديه من وسع وجهد وطاقة، كما في قوله تعالى:" أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا، وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا" ( النّبأ: 6-17). بل يستطيع أن يكيّف حياته في ضوء هذه السنن المنتظمة التي لا تتبدّل ولا تتغيّر، ويعرف منها النظام والانتظام.
إنّ البحث في أساليب الاستفادة من الطاقة المنبعثة من السّراج الوهاج وتسخيرها لما ينفع الإنسان مظهر إعمار حقيقي للكون. وبما أنّ الإنسان لا يستطيع إيقاف المعصرات عن ضخّها للماء لإخراج النّبات من الأرض، فإنّ عليه أن يجمع الماء في سدود ومخازن كبرى؛ ليستفيد منها في تحويل الصحراء إلى جنّات ألفافا، فالماء عصب النهضة والعمران. وتفعيل الاستفادة من النّهار الذي هو وقت المعاش، لتوظيف كلّ دقيقة فيه في استثمار الأرض وزراعتها ليكثّر الإنتاج، وليلبّي حاجات الناس في تحقيق الأمن الغذائي بدل أن يظل رهينة الأسعار العالمية في المواد الغذائية التي لا يدفع إليها إلاّ الطمع وخلق الجشع، وليعالج ظاهرة الفقر هو مظهر من مظاهر الإعمار. إنّ الوقوف على حقيقة هذه السنن ودراستها ينعكس إيجابيا على إعمار الكون واستثمار ثرواته الطبيعية المختزنة.
هذه القوانين هي بمنزلة قرارات ربانية، تستهدف توثيق صلة الإنسان بالله تعالى حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون، وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية، والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات، ليس ذلك انعزالا عن الله تعالى؛ لأنّ الله يظهر قدرته من خلال هذه السنن، ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.([39])
لقد بثّ الله تعالى في الطبيعة عناصر كثيرة، يعدّ اكتشافها فرضا على الإنسان، وتعدّ دراسة هذه العناصر ومعرفة خصائصها من الضروريات بالنسبة إلى الحياة الإنسانية، وكلها خاضعة لقوانين ثابتة منضبطة، فذرتين من الهيدروجين وذرّة من الأوكسجين تشكل جزيء ماء، لا يملك الإنسان شيئاً إزاء هذا الاندماج بين الذرات المختلفة. "ومثل هذه القوانين تقدّم خدمة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية، وتلعب دورا عظيما في توجيه الإنسان...، ومن هنا تتجلّى حكمة الله سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين، وعلى مستوى الروابط المضطردة والسنن الثابتة؛ لأنّ صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الإنسان يتعرّف على موضع قدميه، وعلى الوسائل التي يجب أن يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول إلى إشباع حاجته."([40])
"إنّ آيات عديدة تضع الجماعة البشرية المؤمنة في قلب العالم والطبيعة، وتدفعها إلى أن تبذل جهدها من أجل التنقيب عن السنن والنواميس في أعماق التربة، وفي صميم العلاقات المادية بين الجزئيات والذّرات، إنّنا بإزاء حركة حضارية شاملة تربط بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع والكشف، بين التلقي عن الله والتوغّل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وغوامضها، بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض وبين تسخير طاقات العالم لتحقيق الدرجة نفسها من التقدّم على المستوى المادي."([41]) إنّّنا نجد في كثير من الآيات"ترغيبا في علوم الكائنات، وإرشادا إلى البحث فيها لمعرفة سنن الله وحِكَمِهِ فيها، وآياته الكثيرة فيها الدّالة على علمه وحكمته ومشيئته وقدرته وفضله ورحمته، ولأجل الاستفادة منها على أكمل الوجوه التي ترتقي بها الأمّة في معاشها وسيادتها، وتشكر فضل الله عليها... لقد أرشد القرآن إلى جميع العلوم النباتية والحيوانية والإنسانية -من جسدية ونفسية - والفلكية والجوية والحسابية."([42])
أمّا السنن الإلهية الأخرى المرتبطة بحياة الإنسان فهي السنن الاجتماعية التي يملك الإنسان إزاءها كلّ شيء إيجابا أو سلبا، وكثير منها يدور حول الإيمان قربا منه أو بعدا، تصديقا له أو تكذيبا، استجابة له أو تحدّيا. يقول سبحانه:" ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 53)، فالإنسان نفسه هو منطلق التغيير وفق هذه السنن والقوانين، كما قال سبحانه:" إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ " (الرعد: 11). هذه السنن لها أثر كبير في عملية إعمار الكون، فقد دعا الوحي -مثلا- إلى السير في الأرض للاعتبار فيما آلت إليه أحوال الأمم السابقة التي كفرت بآيات الله وكذّبت رسله، يقول تعالى:" أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ" (غافر: 21). فقوّتهم المادية، وآثارهم التي شيّدوها أصبحت خبرا بعد عين، فالحفاظ على منجزات الأمّة، أيّ أمّة لا يتمّ إلا بتصديق ما جاءت به الرسل، وأيّ عمارة للكون تستند إلى التكذيب والتحدّي لرسالات الله فإنّ تلك العمارة معرضة للانهيار والزوال.
إنّ الأخذ بأسباب القوّة الماديّة من ضرورات الإعمار، فإعداد كلّ مظاهر القوّة العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى قوّة الإيمان وما له من مظهر يتجلى في العبادة والأخلاق والسلوك ... كلّ أولئك يكسب المجتمع قوّة وتماسكا وتكافلا، فسنّة الإعداد تبعث على عمارة الكون، يقول سبحانه: ?وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة"(الأنفال: 60)؛ وتتطلب معرفة صهر الحديد لصناعة السلاح، كما في قوله تعالى:" وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" (الحديد: 25). وتحتاج إلى معرفة قوانين الكيمياء لتشكيله، وتحتاج إلى توظيف قوانين الفيزياء والرياضيات لاستخدامه وقذف حممه على الأعداء وضربهم تحقيقا لتوازن القوى والرعب. إنّّه لما تقاعس المسلمون عن سنّة الإعداد للأخذ بكل أسباب القوّة أصبحوا عالة على الأمم في الدفاع عن أنفسهم.
إنّ القرآن حين دعا إلى إعمار الكون نهى في الوقت نفسه أن يكون هذا الإعمار وسيلة عبث وصدّ وإعراض عن منهج الله تعالى، وفي قوله تعالى:َ" تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ" (الشعراء: 128-130) ما يدلّل على فشل الإعمار المادّي الذي لا يحقّق غايات الحياة ومقاصدها، فقد كذّب هؤلاء رسولهم فهلك كلّ إعمارهم:" فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ"(الشعراء:139). إنّنا نشهد اليوم آثار الفراعنة والفرس والرومان، فما الذي أهلك حضارتهم؟ إنّها سنّة الله التي لا تتخلّف، يقول الله تعالى:" أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"(الروم: 9)
إنّّه لما طغى إنسان هذه الحضارات في الأرض واستكبر، وعلا وتجبّر، وظلم وتكبّر، وظنّ أن لن يقدر عليه أحد، وتحدّى سنن الله تعالى تحقّقت فيه تلك السنن العادلة التي لا تحابي أحدا، وقضت بهلاك هذه الحضارات، وما كان منها قائما فمصيره إلى هلاك وزوال، فإعمار الأرض إن لم يقم على هداية الوحي وسننه فهو إلى زوال، لأنّ أيّ حضارة لا تقيم بنيانها على تلك الأسس فكأنّما تبني حضارة يكابد إنسانها بؤس العيش، وخواء الروح، وضلال الهدف والغاية، وسوء المنقلب والمصير، فهي لذلك حضارة الإفلاس على الرغم مما وصلت إليه من منجزات ماديّة وتقنية.
إنّ "المنهج القرآني منهج فريد في إعادة إنشاء النفوس، وتركيبها وفق نسق الفطرة الخالصة؛ حيث تجدها متسقة مع الكون الذي تعيش فيه، متمشية مع السنن التي تحكم هذا الكون في يسر وبساطة، بلا تكلف ولا تعمّل. ومن ثم تستشعر في أعماقها السلام والطمأنينة الكبرى؛ لأنها تعيش في كون لا تصطدم مع قوانينه وسننه ولا تعاديه ولا يعاديها متى اهتدت إلى مواضع اتصالها به، وعرفت أنّ ناموسها هو ناموسه. وهذا التناسق بين النفس والكون، وذلك السلام الأكبر بين القلب البشري والوجود الأكبر ينبع منه السلام بين الجماعة، والسلام بين البشر، وتفيض منه الطمأنينة والاستقرار.([43]) وهذه هي الثمرة العظمى لإعمار الكون، فالإنسان يكتشف نفسه، ويعرف مكانته بقدر ما يكتشف من سنن كونية واجتماعية انتظمت هذا الوجود بأسره، وتلك السنن تهيّئ له مجالا واسعا في التعامل الآمن مع هذا الوجود ومعرفة أسراره وسننه من أجل إعمار آمن وراشد للكون.
رابعا : استثمار السنن التسخيرية
يتصل هذا المظهر بالمظهر السابق، لكن لأهميته جعلناه مستقلا، فالسنن التسخيرية واقعة ضمن السنن الإلهية ذات الصلة بالكون. إنّ تسخير ما في الكون هو أحد مهامّ الإنسان في الحياة، ويعني البحث في وجوه الانتفاع ممّا ذلّله الله تعالى للإنسان في الكون وتطويعه وتوظيفه بالعمل الدؤوب الهادف، فإنّ العمل ركن من أركان الشخصية المؤمنة وبدونه تسقط دعامة مهمّة من دعائم هذه الشخصية، وينعكس سلبا على الإيمان من حيث مصداقيته في أرض الواقع. وممّا يستند إليه العمل  ويتوافر فيه تلك الدّواعي الإنسانية من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وإطعام جائع، وسدّ حاجة فقير ... فضلا عن الدواعي الاقتصادية بطلب الرزق وكسب العيش، فالموجّه الحقيقي للعمل والمرشد له هو الدّين الذي عدّ الواعي الإنسانية مطلبا أساسيا، ومقصدا ضروريا للعمل الصالح. وبهذا العمل المنهجي الهادف تستطيع الأمّة أن تثوّر كنوز الأرض وأسرارها؛ لتحقّق أهدافها، وتؤدّي واجباتها.
لقد كان تسخير الكون للإنسان لأجل وجوده، وقد بُني الكون بالقدرة الإلهية على قوانين كميّة وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء، فكأنّما هو صنع لاستقبال الإنسان، فتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إعداد الكون كمّيا؛ ليناسب وجود الإنسان، وتسخير الليل والنّهار إشارة إلى إعداده كيفيّا لذلك. كذلك سخّره لاستمرار الحياة الإنسانية؛ فقوانين الكون مذللة لاستقبال الوجود الإنساني ولحياته وسيرورتها، ولتحقيق غايتها.([44])
لقد سخّر الله تعالى للإنسان كثيرا من المظاهر الكونية، فقد سخّر له الشمس والقمر، والليل والنّهار، والفلك والأنهار والبحار، كما في قوله تعالى:" اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" (إبراهيم: 32- 33). وقوله تعالى:" وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية: 13). وسخّر الإبل على بدانتها مقارنة بحجم الإنسان كما في قوله تعالى:" لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ"(الحج: 37).
من هذه الآيات يلحظ المتدبّر أنّ كلّ ما في عالم الشهادة مسخّر للإنسان، ليس هناك شيء محظور يحرم على الإنسان اكتشافه أو التفكير فيه، أو تذليله لمصلحته، أو البحث فيه ودراسته. لقد وضع القرآن الإنسان أمام حوافز أو تحدّيات كثيرة ليكتشف ما أودع الله تعالى فيه من طاقات كامنة، ولتظهر محوريته في عالم الكون.
إنّ تسخير كلّ تلك المظاهر الكونية والمخلوقات لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب، بل يلمح البقاعي غرضا آخر له، فيقول:" كلّ ذلك –التسخير- ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخّرة إلى المسخّر القاهر فوق عبادة"([45]) فالتسخير يقود إلى مبدأ التوحيد الأعظم الذي هو ثمرة هذا الإعمار الواعي للكون، ولأنّه نعمة تذكّر بالمنعم سبحانه وأنّه واحد أحد.
إنّ استثمار ما سخّره الله تعالى يعدّ من فروض الإعمار، وهو تكليف يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، ففي الحديث:" يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخّرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظنّ أنّك ملاقي يومك هذا ؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني"([46])، يعني: ألم أجعلك رئيسا مطاعا، ففي الحديث إشارة إلى أنّ التقصير في الانتفاع مما سخّر الله تعالى صفة من يكذّب بلقاء الله يوم القيامة ولا يهتدي إلى وحدانيته.
إنّ كلّ هذه المسخّرات ينبغي أن تكون عونا للإنسان في أداء مهامّه في الأرض، لا أن تكون عبئا له تبعات ثقيلة عليه. وبعبارة أخرى، ينبغي أن يكون التسخير بابا عظيما من أبواب الشكر والثناء والحمد لله ربّ العالمين، والتصدّيق بما جاء به الوحي من هداية وإرشاد. بناء على هذا، فقد يقول قائل: إنّ أبناء الثقافات الأخرى قد أحسنوا استثمار ما في الكون، واستطاعوا أن يقطعوا أشواطا بعيده في اكتشاف أسراره، وتذليل سبل العيش الرغيد للإنسان، والتفنن في توفير وسائل الراحة وسبل السعادة ؟ والجواب: أنّ هذا صحيح، ولقد استطاعوا أن يحقّقوا ما لم يخطر على بال القرون الأولى، وسوف يتوقع منهم أن يقطعوا أشواطا أخرى في استثمار ما في الكون، برّه وبحره وجوّه. كلّ هذا حقّ لا مرية فيه، وقد تفوّقوا على المسلمين بفارق هائل، وما ذلك إلا للأزمات العديدة التي يعيشها العقل المسلم المعاصر، لكن -مع ذلك كلّه- لا يمكن أن تكون قراءة هذه الأمّم لكتاب الكون قراءة صحيحة؛ لأنّها -بكلّ وضوح- قراءة منقطعة عن أهم مصادر المعرفة وهو كتاب الوحي، بعيدة عن هدايته، فهي قراءة عوراء للكون، وهي قراءة سطحية لظاهر الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم معرضون. وهذا يؤدّي إلى مفاسد كثيرة على صعيد الأخلاق والقيم والسلوك، فلن يورث هذا الاستثمار حياة عادلة للنّاس، بل تسود حياة هؤلاء شريعة الغاب، فيزداد الفقير فقراً، والغنيّ ثراء، ويأكل القويّ الضعيف، وتلتهم الأقلية المتنفّذة حقوق الأكثرية الكادحة الغافلة.
ولقد تحوّلت هذه القراءة - في ظلّ انعدام توجيه الوحي - إلى تدمير لموارد الطبيعة، واستنزاف بشع لخيراتها، واعتداء صارخ عليها، واغتصاب بشع لحقوق الأجيال القادمة وما لها من حقّ في هذه الموارد، ليشبع إنسان هذه الثقافة نهمه وجشعه وطمعه، ويحرم الأجيال القادمة من الحياة الآمنة. خذ مثلا دخول المواد الكيميائية عنصرا أساسيا في صناعة المواد الغذائية، وما جرّ إليه ذلك من انتشار أمراض عديدة كالسرطان. إنّ الإنسان الجشع يرغب بانتاج زراعي هائل بأقلّ كلفة، وأقلّ جهد، وأفحش ثمن، ولو كان ذلك على حساب حياة النّاس !! إنّّه يرغب بإنتاج زراعي في المختبرات. إنّ الوحي يقرر أنّ حفظ النفس واحد من مقاصد الإسلام الكبرى؛ لذلك لا يمكن التعامل مع الكون بهدف الإضرار؛ لأنّه لا ضرر ولا ضرار.
خامسا ً: العناية بالبيئة
نعني بالبيئة الأرض التي يمشي عليه الإنسان، والتراب الذي يزرعه، والهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه، والأنهار التي تمشي من تحته، هي الأرض التي تقلّه، والسماء التي تظله، والجوّ الذي يحلّق فيه بما توصّل إليه من علم ومعرفة. وتعدّ المحافظة عليها والعناية بها وسيلة من وسائل إعمار الكون، ومظهرا من مظاهره.
لقد دعت نصوص الوحي وقواعد الشريعة إلى المحافظة عليها والعناية بها، ويعدّ الاعتداء عليها إفسادا لوجوه الانتفاع بما بثّه الله فيها من آلاء ونعم. لقد جاءت رسالات الأنبياء تنهى عن الإفساد في الأرض، قال تعالى:" وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ"(البقرة: 60).([47])
وبيّنت هذه النصوص كيفية العناية بها، وحثّت على الزراعة وتشجير الأرض منعا للتلوّث، ففي قوله r: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة."([48]) ،"أي: أنّ أجره مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه، ولو مات زارعه أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره."([49]) فهو له عبادة وصدقة جارية إلى يوم القيامة. بل إنّ نصوص الوحي تذهب إلى أبعد من ذلك، فقد قال رسول الله r: "من أحيا أرضا ميّتة فهي له... الحديث."([50]) والأرض الميتة هي الأرض الخراب التي لا مالك لها ولا عمارة بها، وإحياؤها عمارتها."([51]) ، ففي إعادة الخضرة إلى الأرض الجرداء تزيين للبيئة، وبثّ للجمال فيها، وتنقية لجوّها وهوائها من التلوّث، فضلا عن وجوه الانتفاع الأخرى مما يدخل في عجلة الإنتاج والاقتصاد والتنمية.
وفي رسالة أبي بكر إلى بعض أمرائه:... ولا تقطعنّ شجرا مثمرا، ولا تخربنّ عامرا، ولا تعقرنّ شاة، ولا بعيرا، إلا لمأكلة. ولا تحرقنّ نحلا، ولا تفرّقنّه... الحديث([52]) حتى النحل لا يجوز حرقه أو تفريقه؛ لأنّه اعتداء على البيئة، وحرمان للإنسان مما وهبه الله تعالى، فالمحافظة على البيئة تشمل فيما تشمله حفظ الثروة الزراعية والحيوانية وما لها من أثر في التنمية، وما لها من انعكاس على بيئة الإنسان وحياته.
كما لا يصح تلويث الماء وإفساده بأي أسلوب أو طريقة، ففي الحديث "نهى النبيّ r عن البول في الماء الراكد"([53]) ، فكيف بمخلفات المصانع الكبرى التي تقذف نفاياتها السامّة في المياه العذبة والمالحة ؟ فحرمت الإنسان من الانتفاع بماء النهر وسمك البحر.
ولا يصح كذلك تلويث البيئة بمخلّفات الإنسان وفضلاته، ففي الحديث قوله r:" اتّقوا الملاعن([54]) الثلاث: البراز في الموارد-جانب النّهر-، وقارعة الطريق، والظلّ."([55]) وفي هذا اعتداء على البيئة، ونشر للأمراض والروائح الكريهة فيها، وانظر اليوم ما يحدّثه النّاس في المتنزهات العامّة من إلقاء للنفايات والقاذورات، حتى التدخين في الأماكن العامّة يحدث فسادا في الصحّة والبيئة. وإذا كان النبيّ r قد نهى عن أكل الثوم والبصل ثمّ الذهاب إلى المسجد، وكان حين يجد ريحهما من رجل أمر به فأخرج إلى البقيع.([56]) خشية أن يتأذّى النّاس برائحة فمه؛ فكيف برائحة الدّخان الكريهة التي تبعث السموم في كلّ مكان !! إنّ الإنسان حين يفقد الإحساس بهذه المعاني يفقد ثقافته وتراثه، ليعيش بعدها في العراء لا شيء يستره، ولا ستر يحفظه، ولا ستر إلا بتقوى الله والعمل الصالح.
وفي سياق الحفاظ على البيئة الطبيعية وما فيها من حيوان وطير وردت جملة من نصوص الوحي تؤكد هذه المعاني، وتؤكد سبق الإسلام إلى المناداة بمفهوم المحميات الطبيعية بصورة أكثر شمولا مما تعارفت عليه البشرية اليوم، من حيث إنّّه لا يقتصر على حماية الطير أو الحيوانات فحسب، بل يشمل أمورا كثيرة. لقد جعل القرآن مكة محمية طبيعية، ونهى عن الصيّد فيها، وهي البلدة التي حرّمها الله، يقول تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ " (المائدة: 95). وجعل الرسول r المدينة المنوّرة محمية طبيعية، فقال:" اللهمّ إنّ إبراهيم حرّم مكة، وإنّّي أحرّم المدينة، حرام ما بين حرّتيها، وحماها كلّه، لا يختلى خلاها -لا يقطع نباتها-، ولا ينفّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها، ولا تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال... الحديث"([57]) حتى إنّ بعض الرواة يقول: يجد أحدنا في يده الطير، فيفكّه من يده ثمّ يرسله.([58])
وقد نهى عن إيذاء الطير، فقد روى عبد الله بن مسعود قال: كنّا مع رسول الله r في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تفرش، فجاء النبيّ فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها."([59]) فأيّ ذوق رفيع وصلت إليه حضارة الإسلام في حمايتها تعاملها مع أفراد الكائنات، بل أضعف المخلوقات!  
واستنبط العلماء كثيرا من القواعد الشرعية التي يمكن أن توظّف في المحافظة على البيئة، مثل القاعدة الشرعية:"لا ضرر ولا ضرار"، ويندرج تحتها قاعدة "الضرر يدفع قدر الإمكان"، وقاعدة" الضرر يزال"، وقاعدة" الضرر لا يزال بمثله"، وقاعدة" الضرر الأشدّ يزال بالضرر الأخف"، وقاعدة" يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وقاعدة "درء المفسدة أولى من جلب المنفعة."([60]) كلّ هذه القواعد تسهم في المحافظة على البيئة وتدفع الضرر والأذى عنها، مما يمنع تآكلها بفساد الرقعة الصالحة للحياة من الأرض.
سادساً: الحفاظ على موارد الكون
من المظاهر المهمّة في إعمار الكون المحافظة على موارده، فلا يصح التعرّض لما فيه بالإتلاف أو التدمير، كما لا ينبغي استنزاف ما فيه من خيرات دون التفكير بحقوق الأجيال القادمة من هذه الخيرات والموارد. لقد حذّر القرآن من كلّ سلوك يؤذي موارد الطبيعة، كما في قوله سبحانه:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ" (البقرة:204- 205). قال أبو حيان:" لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل، ولكنه خصّهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا، فكان إفسادهما غاية الإفساد"([61]).
هذا السلوك أقرب إلى سلوك الذين يذرفون الدمع لموت طير، في الوقت الذي يقتلون فيه آلاف البشر دون أن تذرف لهم عين، أو يأسف عليهم قلب. كما يدّعون المحافظة على حقوق الإنسان والحيوان والطبيعة، ويعقدون مؤتمرات دولية لهذه الغاية، في الوقت الذي يُصنّعون ويطوّرون أسلحة رهيبة مرعبة للدّمار الشامل. لقد أفسدوا البرّ والبحر والجوّ بفعلهم هذا، وبثّوا الموت والدّمار في كلّ مكان، ومع ذلك يسألون الربّ أن يباركهم ويبارك حضارتهم !!
لقد دعت نصوص الوحي إلى المحافظة على أهمّ مورد لحفظ النوع البشري، أي: حفظ النسل، فقال الرسول r: "تزوجوا الودود الولود، فإنّي مكاثر بكم الأمم."([62]) وبما أنّ البناء العمراني يقوم على الإنسان الذي هو محور الكائنات، فالزواج من التي هي مظنّة الولادة مقصد هادف، وفيه ضمان لعمارة الأرض. ولا يتوقف الحفاظ على العنصر البشري عند هذا الحدّ، بل لا بدّ من التربية والتعليم، ليكون الإنسان في ظلّ هذا الإعمار إنسانا فاعلا ومنتجا، معتمدا على نفسه، لا عالة على الآخرين.
كذلك كان قتل النفس محرّما، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا"(الفرقان:68). وقال سبحانه:" وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئا كَبِيرًا"(الإسراء:31). وفي هذا حفاظ على النوع البشري، أما إطلاق العنان للشهوة الجنسية دون مسؤولية زواج وأسرة فسيؤدي إلى فناء النوع الإنساني الذي هو مادة إعمار الكون.
وفي سياق الحديث عن مورد المال الذي هو عصب الحياة وقوامها، وردت جمهرة هائلة من نصوص الوحي تدعو إلى الحفاظ عليه، وتبيّن النظرة الحقّ إليه، ومجمل هذه النظرة تتلخص في الأمور الآتية:
1- المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، قال تعالى:" آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ"(الحديد: 7). وقال تعالى:" وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ" (النور: 33).
2- ضرورة إنفاقه وعدم كنزه ليعمّ نفعه على الآخرين، فهو وسيلة لا غاية، قال تعالى:" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"(التوبة: 34).
3- إنّه وسيلة إلى التكافل الاجتماعي، قال تعالى:" وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ" (البقرة: 177).
4- ضرورة تحصيله بطرق مشروعة، وإنفاقه في سبل مشروعة، قال تعالى:" وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون"(البقرة: 188).
5- المال فتنة وابتلاء، فيجب أن لا يتحوّل إلى غاية، قال تعالى:" وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ" (الأنفال: 28).
6- ضرورة استثماره بالحلال والابتعاد عن الحرام، كالربا وغيره، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"(البقرة: 278).
7- الحجر على كلّ من لم يحسن التصرّف بالمال كالصغير والسفيه والمعتوه والمجنون، قال تعالى:" وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً" (النساء:5).
8 - الاعتدال في الإنفاق دون إسراف أو تقتير، قال تعالى:" وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان:67).
9- عدم استخدامه وسيلة في الإفساد، فهذا خلق الكافرين، قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ" (الأنفال:36).
10- منع احتكار المال، ولذلك حرص نظام الإرث في الإسلام على تفتيت الثروة كذلك، فإنّ الإسلام دعا إلى إشراك صنوف عديدة في تصريف المال كالفقراء والمساكين وغيرهم، لكي لا يكون تداوله مقصورا في يد فئة معيّنة، قال تعالى:"كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ " (الحشر: 7)."فقصر تداول المال بين فئة قليلة يتنافى مع مقاصد التشريع ومبادئه؛ لأنّ ذلك يلحق الضرر بالفقراء المحتاجين، ويستلزم الاختلال الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، وهذا شيء ينبذه الإسلام، ويحاربه بكل الوسائل؛ لأنّه يضادّ مصالح الدّين، ومنافع الأمّة، ويهدم كيانها ومقوّماتها."([63])
كذلك، من صور المال الثروة الحيوانية والزراعية، وقد دعت النصوص إلى العناية بها، وتكثيرها، وقد حثّت على اقتناء الغنم والاتّجار به، فقال رسول الله r لأم هانئ: اتّخذي غنما يا أمّ هانئ؛ فإنّّها تروح بخير وتغدو بخير([64]) فيما تهب من لبن ولحم وصوف.
كذلك دعت إلى اتّخاذ الإبل، والخيل، ففي الحديث قوله r:" الإبل عزّ لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة."([65])
وهناك نصوص عديدة تنهى عن العبثية في التعامل مع هذه الكائنات، فقد نهت عن صبر البهائم،([66]) وإيذائها، وحبسها، وتجويعها، والتفنن في قتلها وهي حيّة، وكلّ ما من شأنه أن يلحق الضرر بها؛ لأنّّها خلقت لتكون في خدمة الإنسان ومنفعته، يقول سبحانه وتعالى:" اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ" (غافر: 79، 80)، فقد أمر بالرفق بالحيوان، ومن ذلك أنّ النبيّ r دخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبيّ r حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبيّ r فمسح ذفراه فسكت، فقال: من ربّ هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل ؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يارسول الله! فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمه التي ملكك الله إياها، فإنّه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه"([67]). ومن ذلك قوله r:" دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض([68]). وفي الحديث أيضا: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفّه، ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله ! وإن لنا في البهائم أجرا ؟ فقال "في كل ذات كبد رطبة أجر([69])
وحفاظا على وفرة الإنتاج النبيّ r نهى عن أن يقصد إلى الحلوب فتذبح، لقوله r: "إيّاك والحلوب."([70])
والماء من أهمّ الموارد التي منحها الله تعالى للإنسان فهو مادّة الحياة، قال تعالى:" وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء:30). فالمحافظة عليه مظهر من مظاهر الإعمار، فلا يصح هدره وإفساده بالاستخدام الزائد عن الحاجة، حتى لو كان ذلك في مقاصد مشروعة، كالوضوء والاغتسال وغير ذلك. وهو نعمة يحب شكرها بالطاعة، بل إنّ الاستقامة على أمر الله تعالى مجلبة للمزيد من هذه النعمة، يقول سبحانه:" وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا" (الجنّ: 16). كذلك نعمة الماء تذهب بالمعصية والكفر، كما أخبر سبحانه بقوله:" وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ" (المؤمنون:18)، قال القرطبي:" وهذا تهديد ووعيد، أي: في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش، وتهلك مواشيهم".([71]) فاستخدام هذه الموارد في ضوء الشرعة والمنهاج يعبر عن شكر المنعم سبحانه، وبه تدوم النعم.
سابعاً: الاقتصاد والتدبير
يعد الاقتصاد والتدبير من المظاهر المهمّة في إعمار الكون، والانتفاع الهادف مما سخّر الله فيه، ونعني بالاقتصاد "الاعتدال في العمل من غير غلوّ ولا تقصير، وأصله: القصد، وذلك لأنّ من عرف مطلوبه، فإنّه يكون قاصداً له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب، أمّّا من لم يعرف مقصوده، فإنّّه يكون متحيّرا، تارة يذهب يمينا، وأخرى يسارا، فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدّي إلى الغرض الصحيح."([72])
ومن الاقتصاد الاعتدال في الإنفاق، والموازنة بين الدّخل والإنفاق، وبين الوارد والصادر. وهو -كذلك- حالة من التوسط والاعتدال في الإنفاق بين الإسراف والتقتير، قال تعالى:" وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان: 67).
إنّ الاقتصاد -في ظلّ نصوص الوحي- سلوك يتّمثل في تصرّفات الفرد والأمّة، من حيث تلبية حاجاتها الاستهلاكية، من طعام وشراب ولباس، وسكن وأثاث ومتاع، وغير ذلك من الحاجات. لقد تولّد في البيئة الإسلامية مصطلحات لا نظير لها في لغات أهل الأرض أو سلوكهم، كمصطلح الزهد والقناعة التي قامت على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر. وإذا كان الإسراف يعني التوسّع في طلب المباح إلى حدّ الإفراط، فقد قابله الزهد والقناعة، ليرتفع الإنسان من حال التبعية للمادّة والشهوة، إلى حالة من الزهد والسموّ، ليغلب عقله وإرادته على شهوته، فيرقى الإنسان في سلّم الكمال.
ولقد قرر القرآن أساسا مهمّا في جانب تلبية حاجات الجسم من الزينة والأكل والشرب، فقال تعالى:" يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"(الأعراف:31). هذا التوجيه يعدّ أساسا مهمّا في التعامل مع الكون على اعتبار أنّ أهم مظاهر الانتفاع منه تتمثل في اتخاذ الزينة والأكل والشرب، فينبغي الاقتصاد فيها؛ لأنّ في التبذير والإسراف اعتداء عليه باستنزاف موارده وخيراته إرضاء لطمع النفس الإنسانية وجشعها."إنّ الإسراف ينتج عدم القناعة، أي: الطمع، أما الطمع فيخبت وهج الشوق والتطلع إلى العمل، ويقذف بالإنسان إلى التقاعس والكسل، ويفتح أمامه أبواب الشكوى والحسرة في حياته حتى ليجعله يئن دوما تحت مضض الشكوى والسأم. كما أنّه يفسد إخلاصه، ويفتح دونه بابا للرياء والتصنّع، فيكسر عزّته، ويريه طريق الاستجداء والاستخذاء. أما الاقتصاد فإنّّه يثمر القناعة، والقناعة تنتج العزّة، كما أنّه يشحذ الشوق بالسعي والعمل، ويحثّ عليهما، ويسوق سوقا إلى الكدّ وبذل الجهد فيهما."([73]) ولذلك فإنّ الإسراف والتبذير يوّلدان عند الإنسان الشّره في استنزاف موارد الكون وتدميرها بالاستهلاك غير المنضبط لها. ولربما هذا هو السبب الذي حوّل إفريقيا إلى صحاري قاحلة بعدما كانت جنات خضراء!
وقد حرّم الوحي الأكل في آنية الذهب والفضّة، كما حرّم لبس الحرير والذهب للرجال، لما في ذلك من تعطيل نفعها عن النّاس، واستثمارها فيما ينفعهم، فضلا عن كونه من علامات الترف والتبذير، فعن حذيفة بن اليمان، قال:" نهانا النبيّ أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه."([74])
ودعت إلى الاقتصاد في حبّ المال لقوله r: "لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"([75]) وقد بيّن القرآن ذلك، يقول سبحانه:" وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" (الفجر:20).
وقد حذّرت نصوص أخرى من الانبساط التام في التّنعم بمتاع الحياة الدنيا على حساب واجبات أخرى، ففي الحديث قوله r:" والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنّي أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم."([76])  فتحويل الدنيا إلى ساحة تنافس يحوّلها من كونها وسيلة إلى كونها غاية من الغايات، وهدف مقصود بحدّ ذاته.
إنّ أهم ما ينبغي السعي إلى تحقيقه في الحياة هو تدبير شؤون الخلق وتلبية حاجاتهم للوصول إلى الأمن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والوظيفي بحسن استغلال موارد الطبيعة واستثمارها، وتحقيق العدالة في توزيعها بين النّاس.
إنّ الاستهلاك غير المحدود في سلوك النّاس ولّد مشكلات عديدة، من أهمها رفع الأسعار، وشيوع ظاهرة الدّيْن ليلبي حاجاته غير الضرورية، فيستدين ولا يستطيع السّداد، فيتأزم نفسيا فيريق ماء وجهه تحت كل نعل، ويقع تحت وطأة البنوك، وربما يضطر إلى الكذب والسرقة، وربما يعطي صكوكا نقدية بلا رصيد، وربما يؤدّي هذا الفعل إلى اقتراف جرائم و جنايات. وهذا يؤدي إلى موت الفضيلة والمروءة والأخلاق.
أمّا إذا أصبح الدّين ظاهرة متفشية على مستوى مجموع الأمّة، فهذا من شأنه أن يحدث "تّضخما اقتصاديا"، وينشأ عنه فقدان العملة لقيمتها؛ لأنّ المال يلهث وراء البضاعة والإنتاج فلا يجدهما في الأسواق، فترتفع الأسعار، وربما تقل الجودة. والناس لا تفكر بمقاطعة ما هو غال حتى تكسد بضاعته، وما أحسن ما قال محمود بن الحسن البغدادي المعروف بالورّاق علاجا لظاهرة الغلاء ([77]):
           إني رأيت الصبر خير معول ... في النائبات لمن أراد معولا
          ورأيت أسباب القناعة أكدت ... بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا
             فإذا نبا بي منزل جاوزته ... وجعلت منه غيره لي منزلا
          وإذا غلا شيء علي تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
بمعنى حين يقل الطلب على البضائع تنزل قيمتها، وتعود رخيصة كما كانت أو أرخص مما كانت، ولو استطاعت جمعيات حماية المستهلك أن تنظم جهودا في مقاطعة أي بضاعة، لأحدث ذلك ضربة قاصمة لجشع التّجار وطمعهم، وأدّى إلى انخفاض في قيمة السلع.
كذلك، فإنّ من أهم القضايا في التعامل مع موارد الطبيعة التوجّه نحو حفظ حقوق الأجيال القادمة؛ فإذا كان هناك مخزون من المياه الجوفية، فلا يصح استنزافه دون التفكير بحقوق الأجيال القادمة، وحقّها فيه. وإذا كان هناك آبار نفطية، فلا يصح استنزافها وبذلها للمستثمرين الطامعين من الأجانب بثمن بخس دراهم معدودة، وحرمان الأجيال القادمة من هذه النعمة التي وهبها الله سبحانه، حتى لا تأتي الأجيال القادمة فتلعن آباءها وأجدادها، وحكامها وزعماءها. وإذا كان الفلاح البسيط قد قال يوما: "زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون" فهو بذلك جدير بكل احترام وتقدير، لأنّ عقليته قد نمّت عن إحساس كبير بالمسؤولية تجاه الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد على ضآلة حظّه من العلم والمعرفة، وإنّه أولى بمن أوتي حظا من العلم والمعرفة أن يجعل من هذه العبارة منهاجا منضبطا في التعامل مع موارد الطبيعة وخيراتها.
ومثل هذا يقال في الحفاظ على غابات الأرض التي تعدّ مكيّفات هواء للبشرية، فلا تقطع شجرة للصناعات الخشبية إلا بزرع شجرة أخرى مكانها، لئلا تزحف الصحراء على أرض تلك الغابات فتأكلها، وتفقد الأجيال القادمة حقّها في الهواء والبيئة النقيّة. كذلك لا يجوز تدمير الأرض بإجراء تجارب نووية أو بيولوجية عليها، فتؤدّي إلى حرمان الأجيال القادمة من حقّهم في استثمارها.
بهذه الفلسفة، وهذه القيم، وهذه الوسائل تتمظهر في ضوء نصوص الوحي فرضية إعمار الكون، ويظهر من خلال ما تقدّم موقع الإنسان ومحوريته في هذا الإعمار الذي أصبح عقيدة راسخة بالنسبة له، وذلك ما هدف الوحي إلى تحقيقه.


من نتائج الدراسة
ونخلص – بتوفيق الله - من هذا البحث إلى جملة من النتائج نجعلها في النقاط الآتية:
- إنّ المقصود بالإعمار هو كلّ عمل إنساني في هذا الوجود متصف بالصلاح والإصلاح ماديا كان أو معنويا، يهدف إلى تحقيق العبودية لله تعالى، والقيام بواجب الخلافة في الأرض. ولا يمكن أن تتم هذه العملية بنجاح إلا في ضوء رؤية كلية صحيحة للإنسان والكون والحياة مستمدّة من حقيقة الوحي الخاتم، أيّ: في ضوء الشرعة والمنهاج.
        - لقد كان إعمار الكون فريضة يصعب فصلها عن مهامّ الإنسان الأخرى في هذا الوجود، على الرغم من لغة "ذم الدنيا" التي حاولت أن تجد لها مكانا في الفكر الإسلامي. وهو في الوقت نفسه ضرورة تتّجه بالإنسان نحو غاية الوجود الأعظم، وهي معرفة الله تعالى، والكون مخبر صادق عن هذه المعرفة، ومعين لا ينضب من دلائل الوحدانية. وعلاقة الإنسان به هي علاقة توافق وانسجام، لا علاقة هيمنة وقهر واستبداد. وللإنسان تميز عنه بالرفعة والاستعلاء فكل ما فيه مسخّر له.
- إنّ القرآن لم يحدّد تفاصيل هذا الإعمار، ولكنه توجّه إلى إصلاح الإنسان نفسه؛ فصلاح الإنسان إصلاح للكون وفساده إفساد له، ومن هنا يفهم سرّ حملة القرآن على الكفر والشرك والنفاق، من حيث كونها تدميرا للكون والحياة، ومن حيث إنباؤها عن انعدام التصوّر الحقّ إزاء كلّ قضايا الوجود.
- إنّ الاقتصار على الإعمار المادي للكون ينطوي على مخاطر كبيرة؛ لأنّه يعبّر عن أنّ الإعمار تحوّل إلى غاية تهيمن على كيان الإنسان وحياته. وقد اندثرت حضارات، وهلكت أقوام لم يكن لها ذنب سوى أنّها عمّرت الظاهر وأفسدت الباطن، ظاهر الحياة، وباطن الإنسان. إنّ تشريعات القرآن هي التي مثلت غايات نهائية إلى إعمار الكون كفرضية الزكاة مثلا، فالزكاة لا تتأتى إلا بعد استثمار للمال في صناعة أو زراعة أو تجارة حتى لا يتوهمن أحد بأنّ وسائل الإعمار تلك، من صناعة وزراعة وتجارة هي غايات مقصودة لذاتها، فالغاية هي امتثال أمر الله، وتلك وسائل تقود إليه.
- لقد أظهرت نصوص الوحي أنّ مهام الإنسان المتمثلة في الخلافة والعبادة والأمانة والعمارة والشهادة تتضافر وتتداخل من أجل تحقيق عمارة راشدة للأرض والحياة والإنسان.
- وتمظهرت عملية الإعمار في وسائل عديدة : كالعلم الذي له قدرة على تحديد الحقيقة وحلّ المشكلات وفعاليته في تحقيق الجديد، وتغيير الأوضاع والانتقال بها نحو الأفضل والأقوى.
- والتفكر الذي يتيح قدرا أكبر في التعرّف على الكون وتحديد غايته، وهو وسيلة مهمة لتطوير قدرات الإنسان ومواهبه؛ لتستثمر في عملية الإعمار، فالتفكر يمثل مخطّطا هندسيا دائم التطوّر لإعمار الكون.
- واكتشاف السنن الإلهية، يمثل عملية بحث مستمرّة عن قوانين الله تعالى في هذا الكون، ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يفسّر نظام الكون وحركته، وحركة التاريخ وسلوك الأمم والمجتمعات، فيأخذ بأسباب القوّة، ويبتعد عن عوامل الضعف وأسباب الانهيار.
- واستثمار مبدأ التسخير، يتيح للإنسان الخليفة في الأرض أن يوظّف كل موارد الكون لنفع الإنسان وسعادته، فليس ثمّة محظور في ذلك الاستثمار.
- والعناية بالبيئة لتكون المرتفق الآمن للإنسان مظهر آخر، فتدميرها إفساد لنظام الكون، وهدم لعملية الإعمار، وحرمان الإنسان مما سخر الله له وأنعم عليه.
- والحفاظ على موارد الكون، والاستخدام الآمن لها من شأنه أن يحفظ الاستقرار والتوازن في عملية البناء. وأهم ما في حفظ الموارد حفظ النفس والنسل والمال التي تشكل قوام مادة الإعمار.
- والاقتصاد والتدبير في استخدام موارد الكون يتيح لها البقاء لتلبية حاجات الأفراد والمجتمعات، كما يتيح لها تلبية حاجات الأجيال القادمة. كلّ أولئك مظاهر تتجلى فيها عملية إعمار الكون.
2.16.253.210 | 1منقول من جامعة أم القرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق