فلسفة العقيدة في مصر القديمة
من المعروف أن الغالبية العظمى من الآثار المصرية القديمة تتمثل فيما خلَّفه المصريون من المنشآت الدينية، والمتمثلة فى المعابد والمقابر بكل ما اشتملت عليه من شتى الشواهد الأثرية التى نجد أغلبها فى موقعه، والكثير منها فى المتاحف المصرية والعالمية؛ وجميعها آثار دينية باعتبار ارتباطها بهذه المنشآت ارتباطاً مكانياً، وباعتبار ماهيتها ومضمونها والغرض منها من الناحية الموضوعية.
ومن ثم فإن المضمون الفكرى أو الفلسفى أو حتى الثقافى الذى تضمنته هذه الآثار - يمثل المفتاح الحقيقى لفهم الثقافة المصرية القديمة بكل أبعادها الحضارية والتاريخية والإنسانية. فهذا التراث الضخم ما كان ولا جاء إلا نتاج هذه الثقافة الدينية العميقة الموغلة فى القدم؛ ومن ثم يعد هذا التراث - بكل مظاهره - شاهداً حياً صادقاً ومعبراً بوضوح عن الإنسان المصرى القديم، وباباً رحباً للدخول إلى عالم الحضارة المصرية القديمة الرحب من بوابة فكره وفلسفته فى الحياة والوجود.
أواني كانوبية من الألبستر.الأمير"حور نخت".المتحف المصري
لذلك كانت دراسة الفكر الدينى فى مصر القديمة هى عصب دراسة الحضارة المصرية القديمة بكل جوانبها الثقافية والفكرية والفنية والتاريخية؛ وذلك إلى جانب دراسة اللغة المصرية القديمة بمختلف خطوطها (الهيروغليفى، والهيراطيقى، والديموطيقى، ثم القبطى؛ إذ كتب كل التراث المصرى القديم بهذه اللغة وبخطوطها تلك؛ ومن ثم يظل الوعى بقواعد هذه اللغة هو المفتاح الأمثل لفك شفرة تلك الكتابات، ومن ثم استكمال كافة أدوات البحث فى هذا التراث الحضارى الضخم الذى ما زال يثير حيرة الباحثين برغم مئات وربما آلاف الدراسات التى تناولته تحليلاً وتمحيصاً.
ولعل مصدر هذه الحيرة إنما يرجع إلى الطبيعة المعقدة للفكر الدينى المصرى القديم؛ فقد تشابكت فيه الأساطير والرؤى الفلسفية بالثقافة الشعبية عبر آلاف السنين، وفى ضوء الكثير من المتغيرات التاريخية والسياسية والثقافية والروحية؛ وكل ذلك كان يترك أثره -بقدر أو بآخر- فى بنيان الفكر الدينى الذى كان - بطبيعة الميل المصرى إلى المحافظة - يميل إلى ثبات المنهج الفكرى الذى لم يكن ليسمح بتغيرات عاصفة فى صلبه، ولم يكن ليسمح بالنيل من عقيدته التى قامت على تعدد الأرباب فى إطار من التسامح دون السماح بما قد يقلب هذه الأفكار رأساً على عقب.
تابوت من الخشب مطلي علي جص.الأسرة 26 .بالمتحف الملكي للآثار. يوضح نصوص التوابيت
ومعنى هذا أن التطور الطبيعى للحياة مع شتى المستجدات التى تحدث عبر القرون - كان بلا شك يبعث على الدوام على محاولة للتطوير فى مختلف آليات الفكر والعقائد؛ ومعنى هذا أنه قد حدث نوعٌ ما من الصراع غير المعلن للاستجابة إلى سُنة التطور أو التطوير؛ إلا أن هذا الصراع الدفين والمرتجف لم يثمر إلا عن مجرد التوفيق بين الماضى بثقافته الراسخة، والحاضر متى جاء بثقافته الزاحفة.
ومن ثم تشابكت أفكار الماضى بالحاضر فى تراث القدماء، مما أدى إلى نوع من التعقيد الذى نلمسه فى الديانة المصرية القديمة، كتداخل أدوار الأرباب فى الأساطير، وإلغاز المضامين الفكرية أو الرمزية للكثير من الأساطير والتعاويذ، لا سيما فى الكتب الدينية المختلفة، كمتون الأهرام، ومتون التوابيت، وكتاب الموتى، وكتاب البوابات، والكهوف، والـ "إيمى دوات"، إلخ.
ولا شك فى أن مثل هذه التعقيدات تجد طريقها إلى الكتب والدراسات المعنية بالديانة المصرية؛ لأنها فى مجملها محاولات لتفسير أو تأويل هذه النصوص الفلسفية المعقدة، ومن ثم اصطبغت هذه الدراسات بالصبغة الفلسفية وفق الرؤى والاجتهادات التى قام بها العلماء.
كتاب الموتي"مشهد وزن القلب"الاسرة 19.وجدت بالبر الغربي بطيبة.
مقتنيات المتحف البريطاني
ولعل ذلك ما جعل دراسة الفكر الدينى المصرى دراسةً فلسفية الطابع، مما يمثل عقبة كئوداً أمام الباحثين الشباب للإقبال على هذا النوع من الدراسة. ولعلنا نلتمس لهم بعض العذر، لا سيما حين تكون بعض المراجع التى يلتمسونها بمثابة فلسفة تضاف إلى فلسفة، وبمنهج فى العرض لا يقل تشابكاً ولا صعوبة عن موضوع الدراسة ذاته؛ وذلك - من غير شك - يبعث على نفور الباحث والقارئ المثقف معاً.
وعلى ذلك أردنا عرض التراث الفكرى الدينى للمصريين القدماء بمنهج أقرب إلى الوصفية منه إلى المنهج التحليلى أو التأويلى؛ وذلك بتفكيك بنية الفكر الدينى المصرى إلى عناصره الرئيسية، ومظاهره الغالبة، مع العرض غير المطول للتفاصيل التى قد تحيلنا مرة أخرى إلى التعقيد المحذور منه بكثرة التفريعات والجزئيات؛ وذلك فى محاولة للإلمام بمرتكزات هذا الفكر وأبرز مظاهره، دون الإخلال أو الإملال.
وكان حرصنا كذلك على بيان القصد من أقرب الطرق، وبأيسر العبارات تركيباً ودلالة، حذرين من أن تكون لغة العرض ذاتها عقبة فى طريق تعاطى المادة العلمية، فتلك آفة الكتابة العلمية، لا سيما الإيجاز المخل، والذى لا يقل عنه سوءاً التطويل الممل الذى يلف ويدور حول المراد دون أن يبلغ منه شيئاً. لذلك كان حرصنا على بساطة الأسلوب منهجاً مختاراً لمحاولة السيطرة على تعقد بعض الأفكار والموضوعات، وذلك فى العادة منهجنا الذى نحرص عليه دائماً، مع الحذر من تسطيح المنهج أو النيل من التناول الأمين والعميق فى نفس الوقت.
وقد كان حرصنا كذلك على محاولة الاستعانة بالمتاح من أحدث الدراسات المعنية بالموضوعات الدينية، فما زال البحث يسفر فى كل يوم عن الجديد، ويفك الخيوط المتشابكة فى هذا العلم شيئاً فشيئاً. لذلك فقد استفدنا من الدراسات الحديثة والقديمة على السواء فى توسيع نطاق الموضوعات التى يتناولها الموقع، عسى أن يجد فيه الباحثون والمثقفون بعض ما يرجون بما يسعفُ اللحظةَ الباحثة، تاركين الحواشى تعرض المصادر والمراجع التى توغل فى التفاصيل الدقيقة لمن يريد.
ونظراً للتوسع فى الموضوعات التى تضمنها الموقع الاثري، فقد رأينا أن نعرضه فى شكل متكامل، بل قل أننا اضطررنا إلى ذلك كى لا نسقط فى فخ الاختصار المخل، أو التكثيف المفضى إلى التعقيد، أو حذف بعض الموضوعات التى قد يحتاجها الباحث والقارئ ولا جهد له فى أن يذهب بعيداً للبحث عنها إذا كان البحث عنها ميسوراً بقدر.
فقد خُصص لتناول عالم الأرباب فى مصر القديمة، مع التركيز على تقديم قاموس لأشهر المعبودات المصرية والأجنبية. وبدأناها بالحديث عن طبيعة ومظاهر المعبودات المصرية القديمة، وهيئاتها، وأهم الرموز التى ارتبطت بها.
وقدمنا فى عرضنا فيه الغالبية العظمى من المعبودات المصرية القديمة وركزنا فى العرض على أهم المعلومات التى وصلتنا عن هذه المعبودات من المصادر الأثرية والمراجع، مع التركيز على خصائص كل منها، وأدوارها المختلفة فى التراث الدينى المصرى، لا سيما من المناظر والنصوص والكتب الدينية.
أما مجامع الأرباب، والتى تبدأ فيها قصة تداخل أدوار المعبودات. وقد قدمنا فيه باختصار أشهر مجاميع الأرباب المصرية: الأزواج، والثواليث؛ إلى جانب الرابوع، والثامون، والتاسوع.
وتناولنا المعبودات الأجنبية التى عُرفت فى مصر فى فترات تاريخية تميزت باتساع العلاقات الخارجية السلمية والحربية بين مصر وبلدان الشرق الأدنى القديم، وما تبعها من اصطحاب الأجانب المقيمين أو الوافدين إلى مصر لمعتقداتهم وثقافتهم الدينية، أو ربما للتبادل الثقافى بين مصر وهذه البلدان، وما أدى إليه من تبادل حضارى وعقائدى، نتج عنه تقديس وعبادة عدد من المعبودات المصرية خارج مصر، ودخول عبادة عدد من معبودات هذه البلدان إلى مصر.
ثم نتناول موضوعات عدة، تناولنا فيها موضوعات: الكهنوت المصرى؛ والطقوس والشعائر الدينية المختلفة فى كل من المعابد والمقابر؛ والأعياد والاحتفالات الدينية؛ والسحر؛ والتحنيط.
ثم تناولنا موضوعات فلسفة العقائد واللاهوت المصرى القديم، وخاصة نظريات خلق الكون والإنسان، والكتب الدينية المختلفة التى اختصت بالحياة الآخرة بعد الموت، كمتون الأهرام، ومتون التوابيت، وكتاب الموتى، والإيمى دوات، وكتب الكهوف والبوابات، الخ. كما سنتناول بعض الموضوعات الأخرى، كالعقيدة الآتونية، والرموز الدينية والتمائم، ومفهوم الـ (ماعت) فى مقابل الـ(إسفت)، والوحى والنبوءة، والعمارة الدينية.
منقول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق