البناء في اللغة العربية - الجزء الثاني
و هو استكمال للبناء المعماري اللغوي في العربية
بفضل الله لقد توصلت بعد معاناة شأن هذا البحث إلى النتائج التالية:
أولاً
: أن البناء لغة : هو وضع شيء على شيء على وجه يراد به الثبوت والدوام أما
في النحو فيمكن القول بأن هناك بعض الاختلافات في وجهات النظر بين النحاة
في حدودهم وأوصافهم للبناء ز هذا بالطبع مما أدى إلى ظهور ثلاثة اتجاهات يذهب الأول إلى
ان البناء هو : لزوم آخر الكلمة حالة واحدة لا لشيء أحدث ذلك من العوامل ,
ويذهب الثاني إلى أن البناء (المبني ) هو : ما ناسب مبني الأصل أو وقع غير
مركب ويذهب الثالث إلى أن البناء هو: ما جيء به لا لبيان مقتضى عامل من شبه
الإعراب وليس حكاية , أو إتباعاً , أو نقلاً , أو تخلصاً من سكونين .
وعنيد أن التعريف الأول للبناء أدق وفاقاً لأكثر النحاة ويليه الثالث ,
لأنه لا تعارض فيه بين معنوية البناء ولفظيته و هذا شيء طبيعي هنا ، أما الثاني ففيه شيء من نظر
فلسفي ؛ لماذا ؟ لأن أصحابه أرادوا أن يفرقوا بين العلة والمعلول , وفي تعريفهم هذا
نظر , لأنهم فسروا المبني بما ناسب مبني الأصل ولم يفسروا ما يريدون بمبني
الأصل , ولأن الكلمة قبل تركيبها ليست مبنية على القول الراجح . وقد تبين
من الدراسة أن أكثر النحاة كانوا يلتزمون في تعريفاتهم للبناء بلفظ البناء
وبعضهم كان يلتزم بلفظ المبني وبعضهم كان يراوح بين التعبيرين وأميل إلى
مذهب من يلتزم بلفظ البناء في التعريف ؛ لأن الإلتزام بالمصدر أدق باعتباره
أصل الاشتقاق خلافاً للكوفيين .
ثانياً:
أن البناء نوعان: لازم , وعارض فاللازم هو : أن الكلمة مبنية في الأصل ولا
تخرج عن البناء إلى الإعراب أبداً. أما البناء العارض فهو أن الكلمة في
الأصل معربة ثم تصبح مبنية بسبب أحد العوارض الطارئة على الكلمة وإذا زال
ذلك العارض عادت الكلمة إلى أصلها من الإعراب .
ثالثاً:
أن مصطلح البناء لم يكن في أول أمره قد استقر على حال ثابتة شأنه في ذلك
شأن كثير من مصطلحات النحو التي لم يكتب لها الاستقرار في أول أمرها و يتمثل
ذلك بوضوح في كتاب سيبويه , إذا كان سيبويه يكثر من وصف المصطلحات النحوية و يطيل فيه و يطنب ,
مما جعل كثيراً من عناوينه يغلب عليها الطول وقد يضطره ذلك إلى أن تتداخل
المصطلحات عنده ليس ذلك فحسب بل كان مما يدخل الباب في الباب, والسبب في
ذلك يرجع إلى أن كتابه يعد أول كتاب في النحو وصل إلينا فعلى الرغم من وضوح
مصطلح البناء في ذهنه فقد كان يصفه بعلاماته كثيراً وكان يلمح إلى معناه
بألفاظ تعبر عنه وكان يكتفي عن ذكر البناء بذكر مرادفه , بل إن التعبير عن
البناء بعلاماته وبالإلماح إلى معناه وبمرادفه تداخلت عنده في نص واحد,
وكان يعبر عن البناء بمصطلح غير المتمكن كثيراً , ب إنه ليستعمل لفظ البناء
وما اشتق منه بمعناه اللغوي كثيراً ليس هذا فحسب بل كان يخلط بين المعنى
اللغوي , والمعنى الاصطلاحي للبناء . وحذا حذوه بعض النحاة كالأخفش والمبرد
وابن سراج والسيرافي. أما الزجاج فأحسب أن البناء بمعناه الاصطلاحي قد
استقر بصورته النهائية عنده . ويبدو أن تلميذه الزجاجي قد تأثر به إذ لم
أقف له على ما يؤكد أنه كان يستعمل البناء بمعناه اللغوي مما يدل على
استقرار مصطلح البناء عنده , أما الفارسي ( و أرجو أن تسنح الفرصة لآنشاء موضوعات عن العمارة و البناء الفارسي فيما بعد ) ومن جاء بعده من النحاة فيمكن
تصنيفهم إلى صنفين من حيث نظرتهم إلى مصطلح البناء: صنف استقر عندهم
المصطلح ومنهم الفارسي وصنف لم يستقر عندهم مصطلح البناء كابن يعيش.
رابعاً:
أن علامات البناء الأًصلية هي السكون والفتح والكسر والضم وعلامات البناء
الفرعية هي الألف , والواو النائبتان عن الضم, والياء التي تنوب عن الفتحة .
وحذف حرف العلة , وحذف النون النائبات عن السكون . والحركة التي تنوب عن
الحركة . وأغلب ظني أن هذه العلامات وضعت مع بداية نشأة النحو؛ لارتباطها
الوثيق به ونضجت في عهد الخليل. وأكثر المبنيات تبنى على العلامات الأصلية .
وبين علامات البناء, وعلامات الإعراب صلة وثيقة لدرجة أن النحاة الكوفيين
كانوا يخلطون بين كلا النوعين , وعلى الرغم من حرص البصريين على التفريق
بينهما فإنه قد وقع الخلط عند بعضهم ويبدو أن ذلك ناشئ من أن كثيراً من
مصطلحات النحو لم تستقر لعهد سيبويه وتلامذته , وناشئ أيضاً من التشابه
الصوتي بين تلك العلامات . والأًصل في البناء من هذه العلامات السكون, لأنه
أخف من الحركة ثم الفتح , لأنه أخف الحركات, ثم الكسر فالضم لثقلهما.
خامساً:
أن البناء هو الأصل في الحروف والأفعال أما الإعراب فأصيل في الأسماء
لحاجتها إليه في الكشف عن معانيها المختلفة , وليس معنى الأصالة أن تظل
الكلمة باقية على الأصل فيها فعلى الرغم من أن الحروف قد بقيت مبنية فإن
الأسماء والأفعال قد خرجت عن الأصل فيها إذ تبنى الأسماء إذا أشبهت الحروف
وتعرب الأفعال إذا أشبهت الأسماء المتمكنة.
سادساً
: أن أكثر النحاة يتناولون المبنيات لازمها وعارضها في موضع واحد وعندي أن
دراسة كل نوع على حدة أجدى؛ للفرق بين ما يبنى بناء لازماً , وبين ما يبنى
بناء عارضاً , فالأسماء اللازمة البناء هي: الضمائر , وأسماء الإشارة ما
عدا المثنى , والأسماء الموصولة ما عدا المثنى أيضاً , وأسماء الأفعال
والأصوات , والكنايات ما عدا أياً الاستفهامية والشرطية , والظروف اللازمة
البناء , والمركبات اللازمة البناء. ويمكن أن نضيف إلى تلك الأسماء أسماء
العدد إذ تبنى على الوقف إذا استعملت في العدأ و العدد .
وأما
الأسماء العارضة البناء فهي: النكرة المنفية بـ لا التي لنفي الجنس,
والمركبات العارضة البناء , والأسماء المبهمة المضافة إلى مبني أو إلى جملة
, و(أوان ) بعد (لات) والخَازِ بَازِ, والمنادى المفرد المعرفة والظروف
العارضة البناء , و( أيَّ) الموصولة .
ويلاحظ
أَنَّ الأسماء العارضة البناء تُبْنَى على الحركة فحسب أو ما ناب عنها؛
لأن لها أصلاً في الإعراب بخلاف الأسماء اللازمة البناء إذ إنَّ أكثرها
يُبْنَى على السكون , ثم الفتح , ثم الكسر, فالضم.
سابعاً
: إن العلة الراجحة في بناء الأسماء منحصرة في الشبه بالحروف وتضمن معناها
بحيث يكون هذا الشبه مقرباً للاسم من الحروف وشبه الاسم بالحرف له أنواع
كثيرة وهي: الشبه الوضعي, والمعنوي, والاستعمالي أو النيابي, والافتقاري ,
والإهمالي, واللفظي , والجمودي, والاستغناء باختلاف الصيغ لاختلاف المعاني
عن الإعراب , والشبه الإضافي , والوقوعي , وتنزل اللفظ من اللفظ منزلة بعض
الكلمة من بعض , والوقوع موقع الفعل المبني أصالة , أو مضارعة الاسم للواقع
موقع المبني, وخروج الاسم عما عليه نظائره وخلافه لباب أشكاله والقطع عن
الإضافة لفظاً لا معنى والإبهام , ووقوع الكلمة على كل شيء .
ويضيف
المبرد من علل بناء الاسم كثرة علل منع الصرف , ويضيف ابن الحاجب من علل
بناء الاسم عدم التركيب والراجح أنَّ لا صحة لما ذكراه , لأنَّ العلل
الصحيحة لبناء الأسماء منحصرة فيما سبق.
وبما
أثبته من أسباب يخرج من المبنيات ما جعله بعضهم مبنياً كالممنوع من الصرف
في حالة الجر, وجمع المؤنث السالم في حال نصبه, والمثنى والجمع.
ثامناً
: أنَّ الأفعال اللازمة البناء هي فعل الأمر خلافاً للكوفيين, والفعل
الماضي ويُبْنَى فعل الأمر على السكون أو ما ناب عنه , وَيُبْنَى الفعل
الماضي على الفتح دائماً إلا إذا اعترضه ما يوجب سكونه, أو ضمه فتكون
الفتحة في آخره مقدرة. أمَّا الأفعال العارضة البناء فهي الفعل المضارع
بشرط أن يتصل آخره مباشرة بنوني التوكيد الثقيلة أو الخفيفة أو بنون النسوة
ويُبْنَى في الحالة الأولى على الفتح, وفي الثانية على السكون. ولا تُبْنى
الأفعال على الضم , ولا على الكسر, لأن فعل الأمر أصله البناء على السكون ,
والفعل الماضي أصله البناء على الفتح وليس هناك فعل ثالث غيرهما مما حكمه
أن يكون مبنياً فَيُبْْنَى على غير السكون والفتح, لأن الفعل الثالث هو
المضارع, وهو معرب في الأصل , ولأنَّ الكسر والضم ثقيلان والفعل ثقيل أيضاً
لدلالته على الحدث والزمان معاً فكرهوا الجمع بين ثقيلين.
تاسعاً:
أنَّ جميع الحروف مبنية , وتبنى على علامات البناء الأصلية. وبناؤها لازم
والدليل على أًصالة البناء فيها أنَّهم قد بنوا ما أشبهها من الأسماء شبهاً
مقرباً لها . وإجماع النحاة على بناء الحروف يختص بحروف المعاني أمَّا
حروف المباني فلا تُبْنَى إلا إذا تُهُجِّي بها ويكون بناؤها حينئذ على
الوقف.هذا و قد تم بفضل الله الجزء الثاني من موضوع عمارة البناء اللغوي في لغتنا العربية الجميلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق